السّلفية-الجهادية-في-تونس-نشأتها-وأسب

الرئيسية » دراسات » السّلفية الجهادية في تونس: نشأتها وأسباب تناميها وإمكانية احتوائها؟ بقلم العقيد بالبحرية (م) الأسعد بوعزي

السّلفية الجهادية في تونس: نشأتها وأسباب تناميها وإمكانية احتوائها؟ بقلم العقيد بالبحرية (م) الأسعد بوعزي

في دراسات

28 أكتوبر 2015
0
1,575 زيارة

الأسعد بوعزي(بقلم العقيد بالبحرية (م) الأسعد بوعزي الكاتب العام السّابق للمركز الأورومغاربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية لبلدان المجموعة 5+5 دفاع)

ما من أحد كان يتوقع أن تونس بلد الحضارة المتجذرة في التاريخ وقدوة العالم العربي والإسلامي من حيث التمدن والتحرر والتقدم العلمي والاجتماعي ستنجب يوما فئة من أبنائها تسعى جاهدة إلى محو تاريخها وطمس معالم ومنارات إشعاعها لتعود بها إلى عصر الجاهلية ؟

وهل كان يخطر على بال احد أن تونس الجمهورية أيقونة الإعتدال والتسامح والتفتح على المبادئ الكونية السامية ورمز السلام والوئام ونبذ الكراهية والعنف والتطرف ستصبح على رأس البلدان المصدرة للإرهاب ومهددة بان تكون أولى الإمارات الإسلامية بشمال إفريقيا ؟

ومن منا كان يعلم أن التونسيين اللذين تربوا على الأفكار النيرة لأبن خلدون وخير الدين باشا والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور وبورقيبة وغيرهم من العلماء والمصلحين سينجبون من صلبهم فئة ضالة لتكفرهم وتنقلب على معتقدهم ومبادئهم ونمط عيشهم وتتشبع من نظرية “إدارة التوحش” لتتوحش فعلا وتصبح كالكلاب المسعورة فيقتل الإبن أباه ويأكل الأخ من كبد أخيه بإسم دين لم نعهده ولن نتربى عليه ولا يشبه الأديان السماوية في شيء ؟

إن تونس اليوم تمر بفترة من أخطر الفترات التي لم يشهدها تاريخها الحديث. فهي منقسمة من حيث الدين بين إسلاميين وحداثيين ومن حيث التوجه الحضاري بين توجه شرقي محافظ وآخر غربي تقدمي ومن حيث النمو الاقتصادي بين جهات نالت قدرا من التطور والنماء ما قبل الثورة وأخرى مهمشة ومنسية منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا. وللتأكد من هذا الانقسام، يكفي إلقاء نظرة على نتائج الانتخابات الأخيرة لترى أن الولايات المهمشة صوتت لصالح الإسلاميين فيما صوتت جل الولايات الساحلية الأكثر ثراء لصالح العلمانيين وهو لعمري منزلق خطير يهدد الوحدة الوطنية إذ بدونها لا يمكن مجابهة خطر الإرهاب الذي يهددنا.

إلى جانب هذا التقسيم البغيض، فان السواد الأعظم من الشعب التونسي بدأ يشعر باليأس والإحباط بعدما خابت آماله في تحقيق أهداف الثورة المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل لعله تملكه القنوط أمام تفاقم الأوضاع نحو الأسوأ من حيث تفشي البطالة والفساد وغلاء المعيشة واستفحال ظاهرة التهريب والإرهاب فيما تبقى الدولة عاجزة عن إيجاد سياسة مدروسة وفعالة لمجابهة هذا الوضع بما يوحي للمواطن بان هناك شيء قد يتغير نحو الأفضل ويعطيه بصيصا من الأمل في المستقبل.

وعوضا عن التكتل والاتحاد لإنقاذ البلاد من المخاطر التي تهددها في هذه المرحلة الدقيقة، فان بعض النخب السياسية اختارت استغلال هذا الوضع المتأزم وهذا التقسيم المقيت لتحقيق أهدافا سياسية ضيقة حيث لجأ البعض إلى إذكاء النعرات الجهوية والقبلية فيما عمد البعض الآخر إلى إحياء صداما تاريخيا بين اليوسفية والبورقيبية أو توريط البلاد في قضايا دولية نحن في غنى عنها وذلك بإيعاز من بعض الاستخبارات الأجنبية التي تترصد بتونس وتعمل جاهدة على إفشال تجربتها الديمقراطية ليتم بعد ذلك طي صفحة الربيع العربي بصفة نهائية.

وبما إن إستراتيجية السلفية الجهادية تقوم على تأسيس الخلافة من رحم الفوضى العارمة (التوحّش) أو تفكيك الدّولة وتركيب الخلافة، فإن الوضع وهو على ما هو عليه اليوم في صالح تلك الفئة الضالة التي انقلبت علينا لتبايع أبا بكر البغدادي وتسعى إلى الإطاحة ببلادنا بعدما وضعت موقع قدم على حدودنا الجنوبية.

يقول القائد الصيني “سان تسو” (500 ق م): “إن كنت تعرف نفسك وتعرف عدوك فأنت الفائز في كل المعارك التي تخوضها معه، وان كنت تعرف نفسك ولا تعرف عدوك فالفوز حليفك في نصف المعارك، وإن كنت لا تعرف نفسك ولا تعرف عدوك فلا مناص لك من الهلاك”.

ولمعرفة هذا العدوّ المتربّص بنا  والمندسّ بيننا وجب تسليط الضوء على السلفية الجهادية بتونس لنتعرّف على نشأتها وأسباب تناميها قبل أن أتعرض إلى إمكانية احتوائها.

هذا، ويبقى للإعلام وللقوى الفاعلة من المجتمع المدني وللشخصيات الوطنية الصادقة مع شعبها والغيّورة على بلدها أن تعرّفنا بنقاط ضعفنا وتعمل على رأب ما تصدّع بيننا وبعث روح الأمل فينا للمحافظة على وحدتنا الوطنية الضّامنة للنجاح في كلّ مسعانا.

  1. مراحل نشأة السّلفية الجهادية في تونس
  • حقبة الثمانينات

تعود أولى العمليات المسلحة الموجهة ضد الدولة التونسية لزعزعة النظام القائم فيها قبل إسقاطه واستبداله بنظام يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية إلى الثمانينات من القرن الماضي. يأتي ذلك بعد ظهور عدّة فصائل جهادية في مصر أواخر السبعينات تدعو إلي قلب الأنظمة القائمة في البلدان العربية لصالح أنظمة “تيوقراطية”. تزامنت هذه الطفرة في الفصائل الجهادية مع ظهور كتاب “الفريضة الغائبة” لصاحبه محمد عبد السلام فرج الذي يلوم فيه المسلمين على ترك فريضة أساسية من فرائض دينهم وهي الجهاد ويدعوهم إلى البدء بمحاربة العدوّ القريب وهي الأنظمة في البلدان ذات الغالبية الإسلامية قبل التفرّغ لمقاتلة العدوّ البعيد من غير المسلمين.

وكانت حركة الاتجاه الإسلامي في تونس (حركة النهضة حاليا) من الحركات التي استلهمت من هذا الفكر لتتبنّى أطروحة “التغيير الجذري المسلّح والانقلاب الثوري” وتتحدّى النظام القائم بعمليات متنوعة طالت مقرات الحزب الحاكم وبعض رموزه السياسية إلى حدّ تدبير عملية انقلابية بعد اختراق المؤسستين الأمنية والعسكرية سنة 1987.

وفي شهر أكتوبر من نفس السنة قامت مجموعة تطلق على نفسها  إسم “الجهاد الإسلامي” بشن هجوما على مكتب للبريد و مركز للشرطة وتبنت التفجيرات التي ضربت فندقين بكلّ من سوسة والمنستير. وعلى إثر هذه الأحداث قام النظام باعتقال قيادات هذا التنظيم وعلى رأسهم العضو السابق بالاتجاه الإسلامي الحبيب الضاوي كما تمّ إعدام مفتي الجماعة محمد الأزرق بعد تسلّمه من السعودية التي لجأ إليها.   

وقد إنتهت مرحلة الثمانينات بظهور تنظيم أطلق على نفسه “طلائع الفدى” بقيادة العضو السابق في حركة الاتجاه الإسلامي الحبيب لسود الذي يرجح أنه تم القضاء عليه في حملة أمنية بداية التسعينات.

  • حقبة الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتي

شهدت فترة الثمانينات محاصرة الإسلاميين وتضييق الخناق عليهم في جل البلدان العربية لِمَا أصبحوا يشكلونه من خطر على الأنظمة الحاكمة خاصّة بعد اغتيال أنور السادات سنة 1981 وتزامن ذلك مع غزوة الاتحاد السوفييتي لأفغانستان (1979-1989). تأتي هذه الغزوة في أوج الحرب الباردة وكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحول دون توسّع العدوّ الشيوعي نحو آسيا الصّغرى التي تعدّ قلب العالم من الناحية ألجغراسياسية حسب نظرية “زبغنياف بريزنسكي” مستشار الأمن القومي للرئيس “كارتر” ومنظّر السياسة الخارجية الأمريكية.

ولتحقيق النصر في هذه الحرب، كان على القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا أن تشجّع أنظمة البلدان الإسلامية على إستنفار “إسلامييها” للقتال في أفغانستان حيث صدرت عدّة فتاوى للجهاد لعلّ أهمّها فتوة الشيخ الأردني-الفلسطيني عبد الله عزام التي تقضى بأن الجهاد “فرض عين” على أي مسلم، إذا ما احتلت أي أراض مسلمة.

وتلبية لهاته الفتاوى وهروبا من بطش النظام، توجه إلى أفغانستان عدد من الشباب والقيادات الملاحقة داخل تونس بعضها ينتمي إلى حركة الاتجاه الإسلامي والبعض الأخر إلى “الجبهة الإسلامية التونسية”  ذات الفكر السلفي التي التحق اغلب أعضائها ومؤسسيها ببيشاور بباكستان (نقطة العبور إلى أفغانستان) لعل أبرزهم محمد على حرّاث وعبد الله الحاجي الذي تمّ حبسه بسجن “غوانتنامو” بعد الإطاحة بطالبان.

بعد هزيمة الاتحاد السّوفييتي واندحاره خارج البلاد (15 فيفري 1989) تاركا النظام الشيوعي الذي لا يزال قائما في البلاد يواجه بمفرده المجاهدين الأفغان، تشتّ0ت الجهاديون فمنهم من التحق “بالبوسنة” للجهاد ضدّ “سربيا” مثل الاسعد ساسى أمير كتيبة “جند أسد ابن فرات” التى تمّ تفكيكها بعد احداث سليمان 1997 ومنهم من لجأ إلى السودان الذي يحكمه الإسلاميون بقيادة الحسن الترابي فيما عاد آخرون إلى تونس حيث تمّ إعتقالهم.  

  • حقبة الحرب الأهلية الأفغانية

بعد إنتصار المجاهدين الأفغان (الجيش الإسلامي)  بقيادة أحمد شاه مسعود وقيام الدولة الإسلامية مكان الجمهورية الديمقراطية الأفغانية سنة 1992، دبّ انشقاق بين القادة التاريخيين للثورة الأفغانية ما جعل حركة طالبان تغتنم الفرصة لتعلن حربا على كل الفصائل المتواجدة على الساحة سنة 1994 من اجل قيام إمارة تقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية.

وقصد التغلب على “التحالف الشمالي” بقيادة احمد شاه مسعود، كان على طالبان أن تتحالف بدورها مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن الذي استطاع في ظرف وجيز تكوين عدة كتائب جهادية جل قادتها من الذين قاتلوا إلى جانبه في الحرب ضد الاجتياح السوفييتي. وكان التونسي سيف الله بن حسين (أبوعيّاض) من بين القادة المقربين إليه وقد تولى من ناحيته تكوين وقيادة “الكتيبة التونسية المقاتلة بأفغانستان” التي أوكل إليها تنفيذ بعض المهمات الصعبة ونجحت في تحقيقها مثل اغتيال القائد أحمد شاه مسعود.  

بقيت هته الكتيبة الجهادية التونسية بأفغانستان حتى بعد استيلاء طالبان على الحكم ومبايعة ألمُلّى عمر أميرا للمسلمين سنة 1996 إلى أن أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الحرب على القاعدة وحليفتها طالبان على اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

إنتهت هذه الحرب بسقوط إمارة أفغانستان وتنصيب أحمد قرضاي على رأس نظام موالي للغرب تحت مضلّة حلف النّاتو، أمّا الجهاديون العرب فقد قبر منهم من قبر وفرّ منهم من فرّ والقي القبض على من تبقى  ومن بينهم أثنى عشر تونسيا ليتمّ إيداعهم في معتقل “غوانتنامو” الشهير.  

تعتبر هذه المرحلة نقطة تحوّل في تاريخ السلفية الجهادية إذ تمّ  خلالها تزاوج الأفكار الجهادية الانقلابية الدّموية القادمة من شمال إفريقيا مع الأفكار السلفية الوهّابية القادمة من دول الخليج العربي وهو ما أدّى إلى ظهور السلفية الجهادية في أبشع مظاهرها وقد تجسّم ذلك بالتحالف البغيض بين زعيم تنظيم القاعدة حاليا أيمن الظواهري وأبيه الرّوحي منظّر الفكر الوهّابي والداعم للجهاد الأفغاني أسامة بن لادن.

هذا من حيث الفكر، أمّا من حيث الخيارات الإستراتيجية  فقد غيّر تنظيم القاعدة عقيدته القتالية لينتقل من قتال العدوّ القريب (البلدان ذات الغالبية الإسلامية) إلى قتال العدوّ البعيد (القوى الغربية) وذلك بعد ما استفاد من مبايعة كل التنظيمات الجهادية المتواجدة على الساحتين الأفريقية والآسيوية التي تمرست في حروب أفغانستان والبوسنة  والشيشان والجزائر والعراق وأصبحت تتمتع بخبرات عالية من حيث العمل التكتيكي والتعامل مع الأسلحة والمتفجرات ليصبح بذلك تنظيما عالميا قادرا على الضرب في أي مكان من الكرة الأرضية. وليبرهن على قوة قدراته، قام التنظيم بعدة هجومات طالت بعض البلدان الغربية مثل فرنسا وانكلترا وإسبانيا ولم تستثني بعض السفارات الأمريكية بإفريقيا.

وكي يستقطب المزيد من المتعاطفين معه ضمن صفوفه، تولّى التنظيم حملات دعائية بالصّوت والصّورة عبر شبكة الإنترنت وبعض القنوات التلفزية المشبوهة مثل قناة الجزيرة الإخبارية وكانت هذه الحملات تتمحور حول خطب بن لادن التحريضية وبعض التفجيرات والعمليات الإرهابية ما ساعد على تجنيد الكثيرين وتكوين خلايا نائمة في جلّ بلدان العالم.

وكانت تونس من بين البلدان المستهدفة من طرف هذه الخلايا التي تمّ تحريكها في مناسبتين لزعزعة النظام وضرب الاقتصاد الوطني عبر استهداف السياحة:

  • الهجوم على المعبد اليهودي بجربة (2002) الذي خلف 19 قتيلا و30 جريحا معظمهم من السيّاح الأجانب. نفذ الهجوم جهادي تونسي يدعى نزار نوار كان قد تدرّب في معسكر للقاعدة بمدينة كراتشي الباكستانية.
  • أحداث سليمان الدامية (اوائل2007) التي دارت بين القوات الأمنية التونسية وكتيبة “جند أسد بن الفرات ” التي يقودها الأسعد ساسى الذي قاتل في كلّ من البوسنة وأفغانستان. أودت هذه الأحداث بحياة 15 مسلحا وألقي على إثرها  القبض على المئات ممّن اتهموا بالانتماء للفكر السلفي الجهادي.

 

  • مرحلة ما بعد ثورة 14 جانفي 2011

بعد سقوط النظام وصدور العفو التشريعي العام في شهر فيفري2011، غادر الجهاديون السجون (وعلى رأسهم أبو عياض الذي بادر بتأسيس “أنصار الشريعة”) والتحق بهم من كان بالمنفى لينظموا صفوفهم ويفاجئوا التونسيين بعقد مؤتمرهم الاستعراضي الأول بالقيروان في شهر ماي 2011 تحت شعار “اسمعوا منّا و لا تسمعوا عنّا “. 

كان هذا المؤتمر مشفوعا بندوة صحفية انعقدت بجهة وادي الليل بحضور القيادات الجهادية كسيف الله بن حسين(أبو عياض) وسليم القنطري (أبو أيوب التونسي) إلى جانب الخطيب الإدريسي أحد منظري التنظيم وقد رفض المشرفون على الندوة التقدّم بطلب تأشيرة العمل القانوني معتبرين أن ذلك كفرا وأنهم لن يطلبوا التأشيرة إلا من الله . 

ومنذ ظهورها على الساحة، بادرت أنصار الشريعة بإشهار عدائها للدولة وتكفير السياسيين وانساقت إلى العنف حيث قامت بعدة “غزوات” سنة 2012 كالهجوم على قناة نسمة ودار العبدلّية والسفارة الأمريكية وفي سنة 2013 نفذت إغتيالين سياسيين لوجهين بارزين من القيادات المعارضة للإسلاميين والمعادية للجهاديين (شكري بلعيد والحاج احمد لبراهمي) كما خططت لتفجير مقرات أمنية وأسواق تجارية ما جعل حكومة “الترايكا” بقيادة علي لعريض تعلنها تنظيما إرهابيا بعد ضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.

  1. أسباب تنامي السلفية الجهادية

لم تشهد السلفية الجهادية منذ نشأتها في ثمانينات القرن الماضي إلى أواخر سنة 2010  أيّ نموّ في عدد المنتسبين إليها من شانه أن يغير تركيبة المجتمع التونسي ونمط عيشه ويعود ذلك بالأساس إلى تشديد قبضة النظام على كل التيارات الإسلامية.

وبعد انهيار النظام سنة 2011 وانكسار جدار الخوف وانتهاء الوصاية الدينية للدولة على التونسيين، ظهر ما يشبه الانفلات في كل الميادين ومنها الشأن الديني حيث برزت ثقافات دينية جديدة لم يعهدها المجتمع التونسي وعلى رأسها التيّار السّلفي وخاصة المتشددين منه المعادين للنظام الديمقراطي والجمهوري والمكفرين لكل من يخالفهم الرؤية في مفهوم الإسلام والدولة والمنادين بتطبيق فريضة الجهاد لقلب النظام وإقامة الإمارة الإسلامية بقوة السلاح.

إن الملفت للانتباه في هذا التنظيم المتوحش والمارق عن القانون هي قدرته عن الاستقطاب والتعبئة وهو ما عكسه مؤتمره الأول بالقيروان حيث شارك فيه عدة آلاف من المنتسبين إلى هذا الفكر الهدّام ولا شكّ أن عدّة عوامل ومسبّبات ساهمت في تنامي هذا التنظيم كالخلايا السرطانية لعلّ من أهمّها:

1.2. ما قبل ثورة 14 جانفي 2011

أ) أسباب امنية :

  • إحكام النظام قبضته على المجتمع ووضعه تحت وصايته من حيث المعتقد والضمير وشعور ألإسلاميين على مختلف توجهاتهم بالمحاصرة والاستضعاف في بلدهم وتعرض العديد منهم لإنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وصلت إلى حدّ القتل تحت التعذيب وهو ما دفع العديد منهم إلى التطرّف واللّجوء إلى العنف لمحاربته.
  • إنخراط تونس في التحالف الدّولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ما سمح للنظام باغتنام الفرصة ليستهدف الإسلاميين رغبة في استئصالهم، وهو ما جعلهم يشعرون بأنهم في حرب من أجل البقاء ضد عدوّ داخلي (النظام) وآخر خارجي (الغرب) لذلك تراهم يسارعون بالإلتحاق ببؤر التوتر أينما ظهرت في العالم الإسلامي للجهاد ضد القوى الغربية عندما تكون طرفا فيها مثلما جدّ في أفغانستان والعراق والبوسنة.

 

ب) أسباب سياسية

  • هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السّياسية وتزويره للإنتخابات سنة 1989 عندما شارك فيها الإسلاميون بصفة مستقلين.
  • تقاعس الدولة (حسب رأي السلفية الجهادية) في نصرة المسلمين والأقليات المسلمة في بعض مناطق العالم، وتحالفها مع قوى غربية معادية للإسلام ومناصرة للصهيونية التي تحتل فلسطين.
  • ظهور القاعدة بقيادة بن لادن (بعد أحداث 11 سبتمبر2001) كتنظيم إسلامي عالمي قادرا على تحدّي أمريكا في عقر دارها ومحاربتها وإلحاق الهزيمة بها على غرار ما تمّ بأفغانستان والعراق، وهو ما إستهوى الشباب التونسي كغيره من الشباب في البلدان العربية والإسلامية ودفع بالكثير منهم إلى الإنخراط بصفوف هذا التنظيم.

 

ت) أسباب اجتماعية

 

  • فشل الدولة في رسم مناهج تربوية وتعليمية صحيحة ما أدّى إلى تفسّخ في الهوية لبعض من الشباب الذي فقد توازنه القائم على الإعتدال في كل أمور الدّنيا والآخرة ولجوء البعض الآخر إلى قنوات دينية وثقافية مغرضة لكسب هويّة لم يتربى عليها أجدادنا. كما أخفق النظام في التعاطي مع ملف الشباب في ضلّ أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة واستفحال البطالة وانسداد منافذ الهجرة حيث أصبح البحر مقبرة لشباب يائس أصبح يفضّل الموت في “الجهاد” على الموت غرقا.
  • تهميش الشباب وعدم تأطير المراهقين المنقطعين عن الدراسة وتركهم فريسة للمترصدين بهم من القوى الظّلامية الناشطة في المساجد والزوايا وعبر منتديات الانترنت لإستقطابهم وغسل أدمغتهم قبل الزّجّ بهم في حروب لا تهمهم في شيء مستغلين في ذلك سجاذة عقولهم وفورتهم الشبابية.
  • تفشى الفساد في كل مؤسسات الدولة وغياب العدالة الاجتماعية والحكم الرشيد وانسداد الأفق وضبابية المستقبل أمام الشباب العاطل عن العمل وغياب البرامج التنموية الناجعة واتساع الهوّة بين الشريط السّاحلي والمناطق الدّاخلية وتضييق الخناق على الحرّيات الفردية دفعت بهذا الشباب المحاصر إلى اليأس واللّجوء إلى الخيار الجهادي والمشاركة في حروب لا دخل له فيها (أفغانستان والصومال والعراق ومالى وسوريا) كبديل حقيقي لحل أزمة استغلال طاقته الوهّاجة.

 

ث) أسباب ثقافية ودينية

  • في مقال صدر بالموقع الالكتروني “نواة” بتاريخ 8 جانفي 2007، فسر الأستاذ والحقوقي فتحي نصري تنامي السلفية الجهادية في تونس (ما أدى إلى وقوع أحداث “سليمان” التى جدت في نفس الأسبوع) بسياسة “تجفيف المنابع” التي لجأ إليها النظام في العشرية الأخيرة من القرن الماضي لإستئصال الإسلاميين حيث ذكر “أن السلطة الحاكمة لجأت إلى محاربة الدين الإسلامي عبر إجبار الشباب على هجر المساجد والاعتقال لمجرد الشبهة وغربلة الأمن والجيش من العناصر المتدينة، ومحاربة الخمار وإجبار الفتيات على خلعه و منعهن من التعليم، باختصار محاربة مظاهر التدين في البلاد ومحاولة طمس الهوية الإسلامية”، ليستخلص بعد ذلك “ أن العنف ثقافة قبل أن يكون جريمة، وهو يولد فكرة ليتحول إلى واقع إذا توفرت مبرراته على أرض الواقع”.

ومن الملفت أن كلّ الإسلاميين المتواجدين على السّاحة اليوم يتبنّون نفس التفسير ويبررون تنامي السلفية الجهادية وتفشّي الإرهاب بسياسة “تجفيف المنابع” ولعلّ خير دليل على ذلك ما صرح به راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة لوكالة الأناظول (2014) في تعقيب له على انتشار السلفية الجهادية بين الشباب في تونس حيث قال : ” أن هؤلاء هم ضحايا عصر القمع والجهالة وتجفيف منابع الإسلام والسياسة التي سلكها النظام السابق التي منعت التعليم الديني في تونس مما جعلها أرضا منخفضة تهبّ عليها ريح السموم من الخارج“.

وإن كنت لا أعارض هذا الطرح في مجمله إذ كان على النظام تشجيع الإسلام  وفق المدرسة الزيتونية المعتدلة وطبقا للمبادئ السّمحة التي دعى إليها علماؤنا وعلى رأسهم فضيلة الشيخ الفاضل بن عاشور، فاني ألوم على هؤلاء الإسلاميين عدم إعترافهم بان هذا التنظيم الذي يكفّر التحزّب ويرفض الديمقراطية ولا يحتكم إلى تشريع وضعي دون شريعته  كان بإمكانه (لو وجد المساحة الكافية) أن يتنامى أكثر وينقلب على نظام الحكم ليقيم الخلافة الإسلامية لو لم يتم التضييق عليه.

  • مقابل سياسة “تجفيف المنابع” تعرض الأستاذ فتحي نصري إلى سبب آخر ساعد (حسب رأيه) على تفشي السلفية الجهادية وهو “تشجيع ثقافة التفسّخ والعري ما شجع على انتشار الجريمة وتفشّي المخدرات في المعاهد والكليات، وعلى المستوى السياسي بلغ الاحتقان والتصحّر ذروته رغم الدعوات العديدة لقوى المعارضة الحقيقية للحوار والمصالحة الوطنية، ذلك أن مؤسسة أخذ القرار بدأت تتوزع على عدة رؤوس خاصة بعد تأكد مرض الرئيس. في هذا المناخ نشأ هؤلاء الشباب الذين لم يجدوا من يؤطرهم التأطير الصحيح ويجنبهم ويلات الوقوع في براثن العنف المضاد والمدمر، فكانت ردة فعلهم على هذه السياسة اختيار الطريق الأسهل وهو مجابهة عنف الحزب الحاكم بالعنف والسلاح”.

 

  • مابعد ثورة 14 جانفي 2011

 

أ) الأسباب الأمنية المحلية منها والإقليمية

  • بعد سقوط النظام وما تبعه من وهن في المنظومة الأمنية وحلّ الجهاز المكلف بأمن الدولة بوصفه البوليس السياسي، خرج المارد من قمقمه وأصبح التونسيون يرون في أحيائهم جحافل من بوليس “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وتم إعلان إمارة سجنان التي تقيم فيها المحاكم الإسلامية الحدود على التونسيين ممن خالف السلفيين في أفكارهم التكفيرية ونمط عيشهم البدائي.

ولمعرفة حجم هذا المارد الذي فاجئ التونسيين، يكفي أن نقدّر عدد المشاركين في تظاهرة 16 مارس 2012  (التي غصّ بها شارع الحبيب بورقيبة) المطالبة بسن دستور منبثق من الشريعة الإسلامية والرّافعة لشعار “دستور من الإسلام آو الموت الزّؤام”.

  • سقوط النظام الليبي وتفكك الدولة وما تمخض عنه من حرب أهلية بين فصائل متناحرة ساعدت على تغلغل السلفية الجهادية واحتلالها لمواقع على حدودنا الجنوبية ما ساعد على تقوية شوكة السلفية الجهادية بتونس بالأسلحة والخبرات القتالية ليتسنى لها بعد ذلك محاربة الدولة والقيام بعمليات إرهابية غير مسبوقة.

 

ب) الأسباب السياسية

  • تغاضي حكومتي “الترايكا” الأولى والثانية بقيادة النهضة عن التصدّي للتيارات الدينية المتشددة بدعوى تجنّب التضييق عن الحريات الفردية فكثرت الخيام الدعوية وتوافد على تونس الكثير من مشايخ الجهاد والتكفير لبثّ روح الفتنة والتفرقة بين التونسيين حيث زارها كلّ من عمرؤ خالد والوهابي محمد موسى الشريف الذي تم استقباله من طرف القيادي في النهضة الصادق شورو والمصري وجدي غنيم الذي كان مصحوبا خلال زيارته بالحبيب اللوز.
  • فقدان الدولة الرقابة عن المساجد ما أدى إلى ظهور تنظيمات دينية فوضوية تستمدّ مشروعيّتها مباشرة ممّا تعدّه سلطة إلهيّة من ناحية، وتشجيع الشباب من طرف بعض القيادات الإسلامية البارزة على الالتحاق بالجهاد في سوريا من ناحية أخرى.
  • تدخل بعض الأنظمة الإسلامية المتطرفة في الشأن التونسي لغاية الإجهاض عن الثورة والحيلولة دون تحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها وتقسيم المجتمع التونسي إلى مسلمين وعلمانيين ومحافظين وحداثيين في مسعى إلى ضرب الوحدة الوطنية صمّام الأمان للشعب التونسي.

 

ت) الأسباب الاجتماعية

  • بقي التهميش لفئة كبرى من الشباب على ما هو عليه قبل الثورة حيث يقول الدكتور محمّد الحاج سالم في دراسة أعدّها المعهد التونسي للدّراسات حول السلفية الجهادية في تونس: الواقع والمآلات، “إن الشباب الجهادي في تونس هو شباب مهمّش في مجال حضريّ مهمّش لا يرى في الدولة والمجتمع إلاّ وجههما التسلّطي الإقصائي، ولا سبيل إلى ردّ العنف المادّي والرمزي للدّولة والمجتمع إلاّ بعنف آخر يوازيه في القوّة ويهزّه في العمق. ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ استمرار عدم الإستقرار السياسي ومناخ التهميش والإقصاء لفئات من المجتمع من شأنها تغذية الإندفاع نحو تبنّي الإيديولوجيا السلفيّة وخاصّة تعبيراتها القصوى الجهاديّة”.

وفي هذا الإطار وجب الإشارة إلى أنّ انتساب الكثيرين للتيّار السلفي لم يكن لأسباب فكريّة أو عقاديّة بقدر ما كان من أجل منفعة شخصية وإنتهازيّة يُرجى من ورائها تحسين الوضعيّة الماديّة والاجتماعيّة لفئة من الشباب التي عرفت بالإجرام واتجارها بالخمور والمخدرات.

 

  • تفشّي الجمعيات الدّاعمة للتيارات الإسلامية ومنها السلفية الجهادية تحت غطاء جمعيات خيرية مشبوهة من حيث مصادر التمويل ومشكوك في أمرها من حيث ولائها للوطن.

 

  1. إمكانية احتواء السلفية الجهادية

من المؤكد حسب جل المصادر الإعلامية أن تونس تأتي في المرتبة الرابعة (بعد الشيشان والسعودية ولبنان) من حيث عدد الجهاديين الذين يقاتلون بالخارج (العراق وسوريا وليبيا ومالي وغيرها من بؤر التوتر)، غير أن هذه المصادر تضاربت حول العدد الجملي لهؤلاء الجهاديين.

وضمن تقريره الصادر في 2015، قدر “المركز الدولي للدراسات حول التطرف” عدد التونسيين الذين يقاتلون في سوريا سنة 2014 بثلاثة آلاف فيما تقدر وزارة الداخلية هذا العدد بـ 1800 عاد منهم إلى تونس حوالي 500 تم اعتقال بعضهم فيما بقي البعض الآخر تحت المراقبة وفق ما صرح به رضا صفر الوزير المكلف بالأمن لدى وزير الداخلية لجريدة التونسية يوم 29 جانفي 2014. وفي مؤتمر صحفي إنعقد أوائل سبتمبر 2015، صرّح الإعلامي زياد الهاني الذي زار سوريا مؤخرا ضمن وفد إعلامي وجمعياتي، أن السلطات السّورية تقدر العدد الجملي للتونسيين الذين يقاتلون في سوريا بحوالي ثمانية آلاف.

9 إرهابيين جزائريينومهما يكن هذا العدد، فان هؤلاء المقاتلين سوف يهددون أمن البلاد واستقرارها بصفة جدية ما لم يتم التفكير من الآن في طريقة إستيعابهم لدرء هذا التهديد خاصة وأن هؤلاء المقاتلين من أشرس الجهاديين وأكثرهم تمرّسا ودموية وذلك بشهادة السّوريين أنفسهم حسب ما أورده زياد الهاني في أحد تدخلاته على قناة نسمة.

 

وفي هذا الإطار، صرّحت كل من حكومة المهدي جمعة والحكومة الحالية عن نيّتها بعث برنامج وطني لإستيعاب الجهاديين العائدين من الخارج قصد تأهيل من لم تتلطخ يداه بالدماء وإعادة إدماجه بالمجتمع غير أن هذا البرنامج لم ير النور إلى حدّ هذا اليوم.

وكان رضا صفر أول من أعلن عن وجود هذا البرنامج لمّا صرّح في حوار له مع جريدة “المغرب” أجراه خلال زيارته إلى واشنطن يوم 2 أفريل 2014  « أن حوالي 1800 تونسي يقاتلون في سوريا وان مصالح وزارته بصدد اتخاذ إجراءات استثنائية لكل تونسي في هذا البلد ما لم تتلطخ يداه بالدماء وقرر العودة إلى تونس من تلقاء نفسه » وقد ذكرت الجريدة أن الوزير ربما كان يلمّح من خلال هذا القول إلى “قانون الرّحمة والتوبة” الذي تم اعتماده في كلّ من الجزائر وايطاليا.

وفي برقية صوتية صادرة عن وزارة الخارجية بتاريخ 25 أوت 2015، جاء على لسان السيد الطيّب البكوش” أن عناصر جهادية اتصلت بنا عبر قنصلياتنا بالخارج وعبرت عن نيتها الرجوع إلى تونس“.

وإن مرّ تصريح السيد رضا صفر دون أن يشغل الرأي العام، فإن تصريح وزير الخارجية أثار جدلا كبيرا لدى الطبقة السياسية التي انقسمت بين مؤيد ورافض ومشكّك في مشروع استيعاب الجهاديين.

تاتي حركة النهضة على رأس المؤيدين لهذه الفكرة حيث صرّح رئيسها راشد الغنوشي على أمواج إذاعة “شمس” «أن المصالحة لا تستثني أحداً، وباب التوبة يبقى مفتوحاً، حتى مع الجهاديين. ومن واجبنا أن نستفيد من تجارب الآخرين فالجزائر اكتوت بنار الإرهاب، وعندما قدم الرئيس بوتفليقة  فتح باب الوئام الوطني والمصالحة الوطنية، فنزل 5 آلاف من الجبال، واندمجوا في المجتمع الجزائري، وكذلك حصل في المغرب الذي احتوى هؤلاء من خلال جيش من العلماء الذين يدعون إلى الوسطية والاعتدال»

وفي حديث آخر أوضح أيضا «أن فتح باب التوبة للجهاديين العائدين من سوريا يشمل من تراجع منهم عن الأفكار السوداء و المظلمة التي تبنّاها عن جهل و انعدام وعي، مضيفا أن هذه المسألة جرّبت في الجزائر والسعودية و غيرها من الدول و أن تونس ليست في حاجة إلى “اختراع العجلة” في هذا الخصوص لأن هناك دول أخرى فتحت مجال التوبة للجهاديين».

وفيما تدعو حركة النهضة إلى العفو عن الجهاديين، فان المعارضة تخشى من أن يتحول مشروع قانون التوبة إلى “ورقة مقايضة بيد هذه الحركة لإعادة الجهاديين الذين ساهمت في إرسالهم إلى سوريا بإيجاد صيغة قانون يتضمن عفوا عن المقاتلين وإعادتهم إلى تونس، مقابل تمرير قانون المصالحة المثير للجدل” كما جاء على لسان حمّة الهمّامي الناطق الرسمي بإسم الجبهة الشعبية.

أمّا المشككين في المشروع فإنهم يطرحون تساؤلات منطقية طرحتها العديد من المجتمعات التي سبقتهم في مناقشة مثل هكذا مشروع كجدية التائبين ومدى صدقهم في توبتهم وكيفية معرفة من تلطخت يداه بالدماء من عدمه.

ودون الخوض في جدل عقيم قد لا يعود بالنفع على الدولة التي أصبحت مهددة في وجودها، فان الحكمة تقتضي منّا أن لا نراهن على مقاربة أمنية بحتة تضع الجهاديين بين خياري السجن أو الموت، ذلك أنّ كل القادة الذين صنعوا التاريخ العسكري أمثال “سان تسو”صانع إمبراطورية الصينية (500 ق م)  و”بسمارك” موحّد “ألمانيا” أوصوا بوجوب ترك مخرجا للعدوّ وتجنب دفعه لليأس بتشديد الخناق عليه.

وعلى هذا الأساس، لا بدّ من معالجة الظاهرة بمقاربة شاملة تأخذ بعين الإعتبار كل الحلول الممكنة والوسائل المتاحة لإستيعاب هؤلاء الجهاديين خاصة وأن العديد من التقارير تفيد بأنه علاوة عن الذين التحقوا بالجهاديين لا عن قناعة بل لتحقيق مآرب خاصّة، فإن الكثيرين من العائدين من سوريا عبّروا عن خيبة ظنهم فيما كانوا يعتبرونه جهادا حيث اكتشفوا أن “داعش” غررت بهم وأصبحت تخيّرهم بين مقاتلة مجاهدين آخرين من بني جلدتهم آو ضرب رقابهم بدعوى رفضهم لفريضة الجهاد في سبل الله .

ولبلورة “إستراتيجية إستيعاب ثم إدماج الجهاديين” لا بدّ من الإستفادة من تجارب الدّول التي سبقتنا في هذه التجربة والتي حققت نتائج جدّ ايجابية نذكر من أهمّها:

 

1.3. التجربة السعودية

 أسست العربية السعودية “مركز الأمير محمد بن نايف “للمناصحة والرعاية” سنة 2006 بعد موجة التفجيرات التي شهدتها المملكة وانضمام عدد هامّ من مواطنيها في تنظيم القاعدة. تمّ بلورة خطة عمل لإستيعاب الجهاديين وأوكل تنفيذها إلى هيئة تحت إشراف وزارة الداخلية وبمشاركة اللجان الشرعية من المشايخ والعلماء الشرعيين والمستشارين النّفسانيين والإجتماعيين.

وتوصف جريدة “لوفيغارو” الفرنسية (في عددها الصادر بتاريخ 9 جانفي 2008) طريقة عمل هذا المركز بالطريقة الناجعة رغم بساطة التمشّي الذي تقوم عليه والمتمثل في ما يلي:

  • عند عودتهم من العراق أو معتقل “غوانتنامو”، يتم استقبال الجهاديين من طرف الأمير محمد بن نايف (ابن وزير الداخلية ومهندس المشروع) ليرحب بهم في بلادهم ويبرز لهم أن الشعب لا ينبذهم ولا يشيطنهم ثمّ يودع العائدين بالمركز (وهو نزل من فئة الخمسة نجوم) صحبة عائلاتهم للاحتفاء بهم وطمأنتهم.
  • بعد أسبوع، تغادر العائلات ويبدأ برنامج التأهيل القائم على تدريس القرآن وتفسيره مع التركيز على المفهوم الصحيح لفريضة الجهاد. وليكون التأهيل أكثر نجاعة، تسعى الهيئة إلى إعطاء أولوية التدريس إلى شيوخ لا يشكك في كفاءتهم ممّن كان لهم تأثيرا في “دمغجة” هؤلاء الجهاديين والأفضل أن يتمّ إنتداب أحد شيوخ السلفية الجهادية ممّن تنصّلوا من الدعوة للجهاد بحمل السلاح حتى لا يحسب على النظام الحاكم ولا يتم إعتباره جاسوسا يعمل لفائدته.
  • بعد برنامج التأهيل الذي يدوم قرابة السنتين، تمكّن السلطات السعودية (التي تتوفر لديها كل الإمكانيات المادية) المتأهّل حال خروجه من المركز من شقّة وسيّارة ووظيفة وتنسّق مع عائلته ليتمّ تزويجه إن رغب في ذلك. وبذلك يتمّ إدماج هؤلاء التائبين بعد أن تضمن عائلاتهم في عدم ارتدادهم في توبتهم وقد تتعرض هذه العائلات إلى اشدّ العواقب إن تمّ مخالفة هذا الميثاق.

إن المقاربة التي توختها العربية السعودية تقوم على الإغراء بالمال والترهيب والضغط على الجهاديين عبر التلويح بالتنكيل بأسرهم وهو ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان وحتى مع تعاليم الإسلام إذ “لا يكلف الله نفسا وزر أخرى”. فهي طريقة تقوم على معالجة الظاهرة دون العمل على التوقّي منها بطرق عدّة، منها منع تعليم الفكر الوهّابي للناشئة. ما يمكن الاستفادة منه من هذه التجربة هو السعي إلى تكليف شيوخ السلفية أنفسهم ممّن لا يشجعون على حمل السلاح بتأطير هؤلاء الجهاديين. 

 

2.3. التجربة المغربية

بعد التفجير الإرهابي الذي هزّ الدار البيضاء يوم 16 ماي 2003 والذي أودى بحياة ما يزيد عن 45 شخصًا بينهم 8 أوروبيين، اعتقلت السلطات المغربية المئات من الأشخاص بتهمة الانتماء لتيار “السلفية الجهادية” وتمت محاكمتهم بموجب قانون “الإرهاب” الصادر عام 2003، حيث صدرت ضدهم أحكام وصفها الحقوقيون وأهالي المعتقلين بالمتشدّدة.

وبعد صدور الدستور الجديد سنة 2011، وبموجب عفو صدر عن العاهل المغربي بمناسبة المولد النبوي يوم 4 فيفري 2012، تم إطلاق سراح شيوخ السلفية الجهادية المحكوم عليهم بعشرات السنين من بينهم حسن الكتاني ومحمد رفيقي (20 سنة) وعلي الحدّوشي ومحمد الفزازي (30 عاما).

وفيما اعتبر المحللون أن هذه المبادرة تمثل بداية المصالحة مع الجهاديين، فان وزير العدل مصطفى الرّميد صرح بأن العفو عن هؤلاء السلفيين ” يعبر عن التفاتة ملكية تفصح بوضوح عن آن الدولة إذا مارست سياسة الحزم الأمني، فان يدها مبسوطة من خلال العفو الملكي عن المعتقلين الذين قدموا معطيات برهنوا من خلالها عن استعدادهم الانخراط الايجابي في الحياة العامة، بعيدا عن الغلوّ والتطرف المشين“.

إن  المملكة المغربية وإن لم تكشف عن الخطة المتّبعة لإستيعاب الجهاديين فإن هذا التصريح يعبر عنها ضمنيا ويمكن تلخيصها في ما يلي:

  • مقاربة أمنية وهي ما يبرزه بعث المكتب “المركزي للأبحاث القضائية” (2011) المتخصص في التتبّع والتحقيق في جرائم الإرهاب وجرائم أمن الدولة وقد تمكن من تفكيك عدة شبكات إرهابية موالية “لداعش” والتصدي لعمليات اغتيالات وتفجيرات قبل تنفيذها.
  • مقاربة سياسية متمثلة في عقد صفقة خفيّة مع مشايخ السلفية قبل إطلاق سراحهم (بعد تقديمهم لمعطيات ايجابية حسب تصريح الوزير) تقضي بأن يتعاونوا مع الحكومة ويقومون صحبة عدد من العلماء بحملة “المراجعة الفكرية” داخل السجون لتغيير قناعات الجهاديين قصد تأهيلهم لغاية إدماجهم داخل المجتمع.

daiichوالدليل على عن وجود هذه الصفقة هو أن هؤلاء المشايخ وعلى رأسهم أشهر التائبين عبد الكريم الشادلي (الذي أصبح قيادي بحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية)  قاموا فعلا بحملة داخل السجون، أعادوا فيها النظر في كثير من الأفكار التي تصادم المجتمع، وتميل نحو التشدد والعنف. إنتهت هذه الحملة بتأسيس أكبر هيئة داخل السجون وتضم حوالي 400 معتقل سلفي يعلنون نواياهم لنبذ العنف والغلو وقبول الديمقراطية والانفتاح على كل التيارات في المجتمع. وأكدت هذه الهيئة أن دمج الجهاديين من حاملي الفكر التكفيري في العملية السياسية واستيعابهم  كفيل بمحاربة التطرّف وتقدمت إلى الديوان الملكي بقائمة اسمية لمئات التائبين للعفو عنهم  وقد حضيت في هذا المسعى بمساندة المجتمع المدني وعدة أحزاب سياسية ومن المنتظر أن يستجيب الملك لهذا المطلب.

إن التجربة المغربية جديرة بالاهتمام لما حققته من نتائج ايجابية. فهي تقوم على منطق “بقدر ما تعطيني، أعطيك” بمعنى مقايضة حرية قادة ومنظّري السلفية الجهادية بمدى نجاحهم في التأثير على منظوريهم لنبذ العنف والانخراط في الحياة السياسية وهو ما يفسر العفو على المشايخ على عدة دفعات.

تماما مثل التجربة السعودية، يعاب على هذه المقاربة إهمالها للجانب الوقائي إذا ما استثنينا الجانب الأمنى الذي يعنى بالتتبع والتنصّط والتحقيق.

      

3.3. تجربة الدّانمارك

إن الطريقة الدانماركية التي تمّ بلورتها من طرف أستاذ علم النفس “برتان برتلسان” والمعروفة “بطريقة “آروس” (نسبة لمدينة آروس) تعد فريدة من نوعها من حيث البرنامج والأسلوب وهي تجربة استفادت من كل التجارب التي سبقتها على الساحة الدولية لتصبح أنموذجا يقتدي به في مجموعة البلدان الأوربية.

تهدف هذه الطريقة إلى استيعاب الجهاديين عبر إقناعهم بإمكانية إعادة إدماجهم بالمجتمع إن

 توفّرت فيهم الإرادة، وتقوم على تعاون وثيق بين المدرسة والمصالح الاجتماعية والأجهزة الأمنية وهي بالتالي ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية تتمثل في:

  • الوقاية المبكرة

تهدف الوقاية المبكرة إلى القيام بحملات تحسيسية بالمدارس والمعاهد (بالمناطق المصنفة حسّاسة) للحيلولة دون تنامي الحسّ الجهادي لدى الناشئة والشباب. يتم ذلك عبر ورشة عمل بإدارة فريق متكون من مختصين في علم النفس ومكافحة الجرائم وبعض الأيمّة إن اقتضى الأمر ويكون للتائبين من الجهاديين دور بارز في هذا الفريق لقدرتهم على الإقناع عبر تقديم شهاداتهم عن تجربتهم المريرة على غرار الشهادات التي يقدمها المقلعين عن الإدمان على المخدرات.

 ولضمان اكبر قدر من النجاح، لا بدّ من حضور أسر التلامذة في هذه الحلقات لما لها من تأثير على أبنائها.

 

  • الوقاية المستمرة

تندرج الوقاية المستمرة من التطرف الديني والأديولوجي ضمن المهام القارّة الموكولة إلى الأجهزة الأمنية ومصالح الإستعلامات المختصة في أمن الدولة الداخلي والخارجي. يتم ذلك عبر التتبع والتنصّط والترصّد طبقا لقانون البلاد.

 

  • تأهيل العائدين من الجهاد

إن تأهيل الجهاديين يقوم على تطبيق برنامج يسمّى “برنامج الخروج من الأزمة” ويمرّ هذا التأهيل وجوبا بالخطوات التالية:

  • قبول العائدين من الجهاد بمراكز مختصّة لتقييم مدى خطورة إصابتهم (مدى تغلغل الحسّ الجهادي في عقولهم) وفرز من ثبت تلطخ يديه بالدماء لإحالته على العدالة،
  • يتم إلحاق الجهادي بفريق متكون من كفيل رئيسي (من الأفضل أن يكون ممّن ثبتت توبته) وعشرين كفيلا آخرين موزعين على المجتمع المدني وأسرة المعني بالأمر وبعض التائبين القدامى ومن طبيب نفساني ورجل امن ومختص في علم الاجتماع. تدوم مدة التأطير ما لا يقلّ عن ستة أشهر وتنتهي متى اكتسب التائب الثقة في نفسه بإبراز مدى قدرته على الانسجام في المجتمع بإعانة أسرته وأصدقائه ولا بدّ له من اخذ القرار في أحد الخيارين، إمّا الشغل أو المشاركة في حلقة تكوينية.

هكذا تبدو التجربة الدانماركية الأقدر على تحقيق نتيجة مرضية غير أنها مكلفة من حيث فرق التأطير المختصة. بقي الإشارة إلى انه لا توجد طريقة ناجعة مائة بالمائة إذ أن كل الدراسات تبيّن أن نسبة العائدين إلى الجهاد بعد تلقي الدورات التأهيلية تتراوح بين 10 و 20 بالمائة.

 

  • كيف يمكن تصوّر المقاربة التونسية؟

إن المقاربة التونسية يمكن إستلهامها من المقاربة المغربية من حيث طريقة العفو التشريعي ومن المقاربة الدانماركية من حيث الأداء مع مراعاة الإمكانيات المادية والبشرية لتونس وبذلك يمكن تصورها على النحو التالي:

 

  • الوقاية المبكرة

تتم الوقاية المبكرة عبر برنامج توعوي يتم تنفيذه بكل المؤسسات التربوية من المدرسة الإعدادية إلى الجامعة وفق رزنامة معقولة يتم ضبطها من الجهات المعنية.

ينفّذ البرنامج من طرف وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي بمشاركة مختصين من وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الدينية. يطبق هذا البرنامج في شكل حلقات حوار حول المفهوم الحقيقي للجهاد وميزات النظام الجمهوري الديمقراطي مقارنة بالأنظمة “التيولوجية” والشّمولية.

  • الوقاية المستمرة

تعهد الوقاية المستمرّة إلى جهاز أمنى على شاكلة ما هو سائر بالمغرب أو الدانمارك في حدود ما يسمح به دستور البلاد، غير أن هذا التمشّي يبقى غير ممكنا في ضلّ تعدد الأجهزة الإستخباراتية وهو ما يفرض الإسراع ببعث الوكالة الوطنية المركزية للاستعلامات.

 

  • تأهيل العائدين من الجهاد

إن المصلحة الوطنية التي تستدعي المحافظة على أمن البلاد وتماسك وحدة شعبها تتطلب منا إتباع التمشّي التالي:

  • إعلان العفو عن الجهاديين داخل تونس وخارجها وإعطائهم مهلة لتقديم أنفسهم بمن فيهم قادتهم ومنظّريهم مع طمأنة من تلطخت أيديهم بالدماء على أرواحهم وتقديم وعدا لهم بمحاكمتهم محاكمة عادلة تسعفهم بأقصى ظروف التخفيف شريطة أن يعبروا عن ندمهم ويقدموا اعتذارهم للشعب التونسي عمّا اقترفوه في حقه.
  • إلزام حزب التحرير باحترام قانون الأحزاب والدستور التونسي وإقناعه بالانخراط في الحياة السياسية حتى ترفع عنه شبهة معاداة الجمهورية والتعاطف مع الجهاديين ليتسنى بذلك الإستعانة به في تأطير التائبين على غرار ما تم بالمغرب.
  • إتباع نفس الطريقة “الدانماركية” في شقّها المتعلق بقبول وفرز وتأطير الجهاديين. ويعتبر الجهاديين تائبين متى اعترفوا كتابيّا بدستور البلاد وبنظامها الجمهوري وبالحقوق المكتسبة منذ الاستقلال إلى حدّ هذا اليوم.
  • الاستعانة بالاتحاد الأروبى للمشاركة في هذا المشروع الوطني (ماليّا) لأن الإرهاب لا يعترف بالحدود الجغرافية وأوروبا ليست في مأمن منه تماما مثل ما هو الشأن بالنسبة للهجرة الغير شرعية.

وتجدر الإشارة إلى أن السيد “جيل كورشوف” المنسّق الأوروبي السّابق في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب سبق له أن صرّح بأن “تونس التي ينتمي إليها 3000 جهاديا متواجدين بسوريا ليست قادرة على استيعاب جهادييها بمفردها خاصة وأنها بصدد إعادة هيكلة وتنظيم أجهزتها الأمنية وهو ما يفرض  علينا مساعدتها لأننا نجابه نفس الخطر”.

إن تطبيق هذا البرنامج يكتسي ضرورة ملحّة أمام الخطر الذي يشكله الجهاديون خاصة وان عودتهم إلى تونس أصبحت وشيكة بعد تضييق الخناق عليهم بالعراق والشام من طرف التحالف الدولي بقيادة أمريكا ودخول تحالف آخر في الميدان بقيادة روسيا.

هذا، ويبقى نجاح هذا المشروع رهن توافق كل الأحزاب السياسية وتزكية المجتمع المدنى وهو ما يستدعي التعريف به ضمن حملة إعلامية تستهدف كل شرائح المجتمع لتعبئتها قصد سدّ المنافذ لكل من تخوّل له نفسه المساومة بهذا المطلب الحيوي.

 

 



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*


Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *