فرنسا في عهد ماكرون: قوة اقتصادية تواجه تحديات سياسية عميقة

شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة، وتحديدًا خلال رئاسة إيمانويل ماكرون، العديد من التحولات البارزة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، مما وضع الجمهورية الخامسة أمام مفترق طرق حاسم فيما يتعلّق بمكانتها الداخلية والدولية.

على الصعيد الاقتصادي، تمكّنت فرنسا من الحفاظ على موقعها كإحدى أكبر القوى الصناعية والمالية في أوروبا، حيث تجاوز الناتج المحلي الإجمالي حاجز التريليوني يورو، مع معدلات نمو متواضعة وصلت إلى حوالي 1% في عام 2024. وقد ركز ماكرون على تعزيز الاستثمارات في القطاعات الحيوية، لا سيما التكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية، إلى جانب تشجيع الابتكار والتنافسية وتحفيز قطاع الأعمال على خلق وظائف جديدة وتطوير المهارات لدى الشباب والخريجين.

ومع ذلك، فإن الصورة الاقتصادية ليست خالية من التحديات؛ إذ شهدت البلاد ارتفاعًا ملحوظًا في مستويات الدَين العام، وتعرضت لانتقادات بشأن تفاقم الفوارق الاجتماعية، وواجهت احتجاجات نقابية على سياسات الإصلاح، خاصةً في مجالي التقاعد والضرائب. كما اضطر ماكرون إلى اتخاذ تدابير تقشفية في بعض القطاعات استجابةً لتباطؤ الاقتصاد الأوروبي وارتفاع التضخم وأسعار الطاقة عالميًا.

أما على المستوى السياسي، فقد تميزت فترة ماكرون باضطرابات متواصلة وأزمة ثقة بين الطبقة السياسية والشعب. تعاقبت أربعة حكومات خلال عام واحد فقط، وسط دعوات لاستقالة الرئيس وتنامي نفوذ الأحزاب المتشددة والمعارضة، مما عمّق من حالة الاستقطاب في باريس والمناطق الإقليمية. ويُعزى ذلك إلى ما يعتبره بعض المراقبين ضعفًا في التواصل مع الشارع الفرنسي وغياب استراتيجية شاملة لمعالجة القضايا الاجتماعية والمعيشية.

خارجيًا، سعت فرنسا للحفاظ على نفوذها التقليدي في إفريقيا والبحر المتوسط والمساهمة في الشؤون الأوروبية، إلا أن مبادراتها لم تلق دائمًا الصدى المطلوب، في ظل منافسة قوية وتغير موازين القوى الدولية. فعلى الرغم من دور باريس في دعم بعض المبادرات الدبلوماسية، إلا أن دورها السياسي، كما تشير بعض التحليلات، بات أقل تأثيرًا مقارنة بثقلها الاقتصادي.

باختصار، يعكس الواقع الفرنسي الحالي مفارقة واضحة: اقتصاد قوي يسير بمحركات الصناعة والتصدير والابتكار، مقابل مشهد سياسي هش يبحث عن التوازن والاستقرار. ويبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة ماكرون والمؤسسات الفرنسية على تحويل هذا النمو الاقتصادي إلى قوة سياسية موحّدة ومستدامة تعيد لفرنسا بريقها التقليدي في المشهدين الأوروبي والدولي.

موضوعات ذات صلة