الاستشراف، التوقّع، المستقبليات: علوم تحتاجها الدول. بقلم مازن الشريف
نشرت بواسطة: التقدمية
21 أغسطس 2015
0
271 زيارة
منذ القديم كان اهتمام الإنسان بمعرفة المستقبل كبيرا، وكان ذلك عامّا، بين الإنسان العادي الذي يتطلع لمعرفة ما تخفيه له الأيام وما يخبّئه له المستقبل، أو الحكّام الذين يريدون معرفة مستقبلهم وأعمارهم ونجاح حروبهم…ولهذا الغرض كان العرّافون والمنجّمون والكهنة كلّ يدعي أن له معرفة بالغيب القادم وما تنفرد السماء بعلمه وتخفيه بحرص عن الأرض وعن الأرضيين، وحلّ الجن في عقول هؤلاء كحاملين للنذر والبشارات والانباء الغيبية. وهذا الأمر كان بشريا عاما عرفته كل الشعوب الإنسانية بطرائق تختلف وتتماهى، أمر لم يتوقّف إلى اليوم، فالإنسان في عصر تطوره التقني هذا بل وفي أكثر الدول رقيا مازال يزور الوسيط الروحاني ويتابع الأبراج ويسمع للمنجمين والعرافين. وتعتمد المصادفة وحدها على نتيجة ذلك فأحيانا يكون الأمر صحيحا وأخرى يكون مجرد تخمين خاطئ، رغم تفنن الزاعمين لذلك في إظهار طرائق التشويق والإيحاء بالمصداقية والتواصل مع عوالم الروح والغيوب، وقد ظهرت نبوءات كثيرة تخص المستقبل وُجد بعضها مدوّنا في جدران الهرم، وآخر لدى شعب المايا، وهنالك الكثير مما دونته الشعوب عن المستقبل البشري وعن نهاية العالم وعلامات ذلك وجدت لدى شعوب الأنكا والأزدك وبابل القديمة وحتى الهنود والصينيون والهنود الحمر…
ولعل من أشهر النبوءات ما دوّنه الفرنسي نوسترادامس[1] . Nostradamus في كتابه “النبوءات Propheties ” (1555) والتي مثلت حيرة وإبهارا للكثيرين ومصدر إلهام لعديد الفلكيين (علم الفلك وفق منظور التنجيم لا وفق المنظور الكوني)، وكان لها تفسيرات مسقطة على احداث كثيرة عرفها العالم. ولم يكن أمره هيّنا أو عابرا بل مؤثرا في الأحداث او قراءة الأحداث ومن نماذج ذلك أثره على النازيين حين قرأت زوجة غوبلز[2] وزير الدعاية السياسية لدى هتلر نبوءاته التي منها ما يفيد بهزيمة النازيين وسعى غوبلز لمحاربة ذلك وزرع معتقدات مضادة لدى شعوب أوروبا عبر منجّم أظهروه اسمه كرافت واتضح أنه كان ينسخ من كتاب نوسترادامس ويحاول عكس ما يحتويه واخراجه بطريقة مختلفة ولكن في النهاية انهزمت النازية وتحقق نبوءة نوسترادمس الذي مازال إلى اليوم محيرا للباحثين في البارسكولوجيا ومصدر اهتمام كبير لدى المنجمين وحتى لدى بعض الدول لأسباب عديدة، كما يحضر في عدد من الكتب وفي أفلام كثيرة منها THE MAN WHO SAW TOMORROW (1981) الفلم الذي يحكي عن “نبوءاته” ويبين تفاصيلا كثيرة عن أمور تحدث عنها وتحققت حرفيا من الثورة الفرنسية إلى ظهور نابليون وهتلر واغتيال كينيدي وشقيقه فيما بعد وعن أمور تخص الحرب العالمية وبريطانيا وغيرها…..
كما أشير إلى ما ورد في التلمود والتوراة والإنجيل من نبوءات وأخبار عن المستقبل، مما أتقن عدد كبير من الرهبان والحاخامات استخدامه للتأثير على أتباعهم وهو ما كان له أثر كبير حتى في تكوين دولة الصهاينة وفي التأثير على الرأي العام الغربي وفي مجريات أمور عديدة إلى اليوم.
ومعلوم أن عددا كبيرا من علماء المسلمين عكفوا على تفسير الآيات والأحاديث التي تتكلم عن علامات الساعة وعن الملاحم وهي تفسيرات تجد أثرها فيما يجري في سوريا اليوم مثلا لأن من روجوا له أضفوا عليه صبغة الملاحم في بلاد الشام وقرنوه بظهور المخلص والخلافة على منهج النبوة وهو جوهر تنظيم الدولة في المستوى العقائدي والروحي والتصوري والزمني.
كل هذا يكشف قيمة معرفة المستقبل وكثرة السبل التي تُتّخذ للوصول إلى ذلك، فالزمن المستقبلي قيّم مرغوب فيه ومحفوف بالغموض، غموض جعل عقلا عملاقا مثل عقل آينشتاين يتصوّر حلولا له عبر نظريات تخص التسارع الزمني فوق الضوئي المفضي وفق نظره إلى تحطيم حواجز الزمن والسفر فيه، وعن نظرية تخص الثقوب السوداء وإمكانية حملها لكائنات أو مجرات كاملة عبر الأبعاد الزمنية المترامية، وحتى عن طبيعة الزمن وتسارعه وتباينه بين مجال وآخر مثل المجالين الكوني والأرضي وغيرها من المسائل[3] التي قامت عليها أفلام كثيرة وألهبت خيال كتّاب الرواية ومخرجي الأفلام السينمائية فظهر عدد كبير من الأفلام التي تحدثت عن آلة الزمن ومنحت تصورات مختلفة عنها وعن الثقوب الدودية البعدية وغيرها وقدّمت تصورات كثيرة للسفر في الزمن الأحادي أو الزمن البعدي (أي زمن البشر عامة أو زمن شخص ما أو زمن يفضي إلى عوالم وأبعاد أخرى).[4] مثل فيلم The Time Machine (2002) للمخرج البريطاني Simon Wells عن الرواية التي حملت نفس الاسم الصادرة سنة 1895 وهي الأولى من نوعها لـلكاتب والروائي الإنجليزي H. G. Wells الذي يلقب بأب الخيال العلمي، وكذلك الفلم الشهير The Terminator (1985) الذي أخرجه المخرج الأمريكي الكبير James Cameron.[5]
ونجاح هذه الأفلام وكثرة الإقبال على مشاهدتها يبيّن مدى الولع باستكشاف المستقبل وبتحطيم حواجز الزمن سواء كان الأمر في طرائق الشامان (العراف او الوسيط الروحي لدى القبائل البدائية) في أغوار إفريقيا، أو التقنيات التصويرية المتطورة والمذهلة في الأفلام الهوليودية، وسواء في عقل إنساني بسيط في زمن قديم جدا، او عقل إنساني عملاق كعقل آينشتاين في عصرنا الحالي، وسواء عبر تفسيرات العرافين واستحضار الجن، أو عبر تصورات الفيزياء البعدية والزمنية.
في جانب آخر استفادت بعض الدول من هذا المعطى (معرفة المستقبل وحتى التحكم فيه) لتصوغه علميا بآليات أخرى، عبر منهج عملي دقيق آليات تكمن حسب رأيي من أمور ثلاثة:
1/ توقّع حدث ما في مجال معيّن بنسبة صحة يراد أن تكون أكبر وأدق.
2/ بناء نموذج تصوري للمستقبل والسعي لتحقيقه سواء للذات أو الآخر تصاعديا أو تدميريا.
3/ القدرة على استشراف الآتي ورؤية الخطط التتابعي الزمني المستقبلي بناء على نموذج الماضي الذي يحمل لازمات تتكرر وعلى الخط الزمني الحاضر ومآلاته.
وضمن هذه المعطيات يكون التوقع متربطا بحدث بعينه ضمن نسب تخمينية حسابية تراعي المتغيرات والثوابت والاحتماليات الأكثر صغرا وندرة.
أما الاستشراف فهو بناء نظر استبصاري بحدث أو أكثر ضمن مجال الاستقراء الحدثاني المبني على التتابع الزمني السابق أي بالقياس مع الماضي والحاضر وبمقارنات مع نماذج أخرى محيطة وفهم الابعاد المختلفة وجوانبها العلائقية سواء على المستوى الجيوستراتيجي والجيوسياسي أو على مستوى الاقتصاد والمجتمع ومختلف الحيثيات الأخرى.
اما علم المستقبليات فهو اشمل من كل ذلك ويضم دراسة المستقبل تفصيليا واستشرافه او وضع تصور له وسيناريو عنه وفق معايير وقواعد ومعطيات كثيرة وعبر تفاعل بين عناصر مختلفة تشكل كلها نموذجا واحدا لمستقبل يراد تحقيقه او يراد التعرف عليه.
هذه العلوم ليست ترفا فكريا، أو من قبيل العلوم المزيفة التي يدعيها أصحابها ويرفضها البرهان العلمي الصارم، بل هي علوم هامة دقيقة لا غنى لأي دولة اليوم عنها. فعلوم التوقع يجب ان تكون آنية في تحيين التعامل مع كل المسائل حتى يتم بناء توقعات مختلفة في جميع المجالات وعليها يتم بناء نظم التطوير والحماية وإدارة الازمات والاستباق.
أما الاستشراف فهو مهم أيضا لمحاولة رؤية المستقبل في مختلف مشمولات الحياة وما يخص المجتمع والدولة، فجيب استشراف المستقبل التربوي وكيف سيكون في السنوات القادمة وكيفيات التحسين وتفادي المشاكل. وحتى في بناء البنية التحتية لمدينة ما لابد من بعد استشرافي فلا يتم البناء وفق معطيات الراهن لأن المستقبل سيشمل زيادة في المعمار والسكان والضغط، وحين ننظر في مدننا ونرى تصميم الطرقات الذي تم بناؤه على أساس وجود سيارة في كل حي في فترة ماضية ولكن لم يتم استشراف اليوم حيث صارت العائلة الواحدة تمتلك أكثر من سيارة مما يسبب الازدحام الخانق وكذلك مسالة صرف المياه وما تعيشه مدن كثيرة من طوفان بمجرد بعض المطر. وقس على ذلك في المجالات كلها وصولا للبعد الاستراتيجي الأمني والعسكري وما فيه من أبعاد جيوستراتيجية ومجالية وسياسية….
أما علم المستقبليات فهو الذي يجمع كل ذلك ويزيد عليه، هو مشروع متكامل ضروري ولازم. فالمستقبل – الذي نوقن أن الله سبحانه قدّر كل شيء فيه – هو نسيج اليوم كما أن اليوم هو نسيج الأمس. وعندما تقوم الدول الكبرى بالنظر في مستقبلها فهي لا تأخذ الأمر عبثيا أو عشوائيا بل تؤسس مراكز دراسات مختصة وتنفق الكثير وتجنّد أعدادا من العلماء حتى صار التنافس اليوم في هذا المجال كبيرا لأن من يستطيع التحكم في مستقبله يمكنه أن يصمد حضاريا وأن يرتقي ويتطور أكثر. كلام لا يمنع القدر ولا يمنع كلمة ابن خلدون: كل أمة تحمل بذور هلاكها. ولعل بذور الهلاك تلك مما يحدو بدول العالم الكبرى لمحاولة تفادي الكوارث، لكنها بيد أخرى توقع الأضعف والخصم فيها وتسعى لنفيه من المستقبل، أليس العالم العربي اليوم في حالة النفي المستقبلي تلك، والتي تمتد لنفي التاريخ الأعمق الذي يفاخر به بين الدول؟
طالما لم تعتني دولنا بالعلوم المستقبلية، فلن تستطيع مواجهة الأعاصير الدولية القادمة التي يتم التجهيز لها أو تلك التي ستأتي تلقائيا، ورغم وجود محاولات كثيرة من عدد من العلماء في العالم العربي للتعريف بعلم المستقبليات، فإنه يظل علما مهملا رغم قيمته ومنعدم الدعم رغم مكانته. وسوف أبين في الدراسة الموالية أنماط المستقبل وطرائق سبر أغواره الغامضة والمزيد من قيمته وخطورته.
سوسة
20-08-2015 1:08:00
[1] نوستراداموس أو Michel de Nostredame (14 ديسمبر أو 21 ديسمبر 1503 – 2 يوليو 1566)، وعادة ما يسمى باسمه اللاتيني نوستراداموس Nostradamus، وكان صيدلانيا فرنسيا ومنجم فرنسي. وقد نشر مجموعات من النبوءات في كتابه Propheties (“النبوءات”)، الطبعة الأولى التي ظهرت في 1555 والتي أصبحت منذ ذلك الحين مشهورة في جميع أنحاء العالم. يحتوي الكتاب تنبؤات بالأحداث التي اعتقد أنها سوف تحدث في زمانه وإلى نهاية العالم الذي توقع أن يكون في عام 3797 م. وكان يقوم بكتابة الأحداث على شكل رباعيات غير مفهومة.
[2] بول جوزيف غوبلز (بالألمانية: Paul Joseph Goebbels) (29 أكتوبر 1897 – 1 مايو 1945) وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وألمانيا النازية، وأحد أبرز أفراد حكومة هتلر لقدراته الخطابية.
[3] قمت بدراسات كثيرة عن هذا المجال ومنها ما دونته في كتابي البرهان ومنها كتابي: تأملات في فيزياء الزمن البعدي عبر القرآن العظيم.
[5] ومثل فيه الممثل الشهير Arnold Schwarzenegger وكانت له أفلام أخرى تتابعية له هي:
Terminator 2: Judgment Day (1991) Terminator 3: Rise of the Machines (2003) Terminator Salvation (2009) and Terminator: Genisys (2015)
2015-08-21
عن التقدمية
مقالات مشابهة