كيف-صنع-القذافي-صليبه؟-بقلم-حسن-مبروك

الرئيسية » منبر حر » كيف صنع القذافي صليبه؟ بقلم حسن مبروك

كيف صنع القذافي صليبه؟ بقلم حسن مبروك

في منبر حر

4 سبتمبر 2015
0
528 زيارة

110222160756_gaddafi_304x171_bbc_nocreditمقدمة:

  لم تتعرض شخصية معاصرة لسوء الفهم والتشويه قدر تعرض القذافي، صحيح أنّ للقذافي محبون وحتى مريدون يرفعونه إلى مصاف الأبطال، وحتى إلى مصاف الرسل والمنذرين عليهم السلام. غير أنّ الفكرة السائدة عنه في معظم أنحاء العالم هي أنّه مجنون ومستبد وديكتاتور، وجاهل بالأصول وعلى نحو خاص أصول تعاطي السياسة، وأصول اللياقة والدبلوماسية.

  وهذه سنن الله في كونه أن يختلف الناس حول الشخصيات المؤثرة والفاعلة والخارجة عن المألوف؛ فحياة المجتمعات كالنهر الذي يتدفق من المنبع إلى المصب دون تغيير منذ مئات بل آلاف السنيين، وجل الناس مجرد زبد، أو طمي، أو حجارة، أو أي شيء ينقله الماء في طريقه. بينما تمثل الشخصيات المؤثرة أولئك الذين يستطيعون، بإذن الله وتوفيقه، تغيير مجرى النهر. ومن هؤلاء من يغير نهر الحياة إلى مجرى أفضل، ومنهم من يغيره إلى مجرى اسوى، غير أنّ القاسم المشترك بين الاثنين يتمثل في كونهما مؤثران وفاعلان ولا ينتميان إلى الزبد أو ما ينقله الماء في طريقه.

  والقذافي بجدارة هو من هؤلاء الذين منحهم الله القدرة على تغيير مجرى النهر وبغض النظر عن إجابة السؤال: في أي اتجاه ولمصلحة من؟

القذافي وصناعة الأعداء:

  للقذافي قدرة عالية ونادرة المثال على استعداء الآخرين! ولا مبالاة نادرة أيضاً على كسب الأصدقاء أو حتى على العمل على تحييدهم في معاركه مع خصومه، ثم هو لا يكل ولا يمل من مقارعة الخصوم ولسان حاله يقول:” طالما أنا أقارع الخصوم فأنا موجود”. ومن تحصيل الحاصل القول بأنّه لا يأبه من تعدد الخصوم وكثرتهم! 

صناعة الأعداء في التنظير:

  حين تصدى القذافي للتنظير استعدى على نفسه كافة الأقوياء في بلده وفي العالم دون استثناء؛ فالتنظير لسلطة الشعب التي أُسي فهمها وشوهت كثيراً، والتي يمكن اختصارها في منح الدائرة الانتخابية سلطة على النائب، بحيث لا يقطع برأي دون استشارتها والاسترشاد برأيها، ولها حق عزله إن لم يفعل، وهو ما يحقق نتيجتين في غاية الأهمية: الأولى: التخلص من سلبية الدائرة الانتخابية، وحل مشكلة سوء أو قصور التمثيل النيابي؛ فمهما استبدلت الدائرة الانتخابية من نوابها لا تجد نفسها في النائب، ومهما اجتهد النائب لا يستطيع أن يعبر عما يريده منه ناخبوه. وهو ما انتج ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات والشأن العام، وما دفع الكثيرين في الغرب إلى الاستعاضة عن الانتخابات بجماعات الضغط للوصول إلى مآربهم السياسية.  الثانية: إبطال دور المال السياسي في شراء أصوات النواب، الذين غالباً ما يعبرون عن مصالح أولئك الذين مولوا دعايتهم الانتخابية، أو حتى من يستطيع شراء أصواتهم عوضاً عن الدفاع عن مصالح ناخبيهم؛ فالنائب في البرلمانات الغربية صار كاللاعب الكروي، ما أن يجيد اللعبة البرلمانية حتى يرتفع سعره، وتتقاطر عليه العروض ليدافع أو يترافع عن مصالح هذه الجماعة أو تلك، وفي الحالتين يسرق الأقدر على الدفع النائب من دائرته الانتخابية، وإن نجح في إيهامهم بأنّه يترافع عنهم في البرلمان، وليس عن الجماعة التي اشترت صوته. وهنا قد يقول قائل بأنّ النائب ينبغي أن يكون معبراً عن مصالح الأمة وليس عن دائرته الانتخابية، كما يقول منظرو الليبرالية، وهذه كلمة حق يراد بها باطل، فما هي سوى ذريعة يتحرر بها النائب عن الالتزام بالدفاع عن مصالح الذين انتخبوه لمصلحة الذين مولوا دعايته الانتخابية، أو لمصلحة الذين يشترون صوته بعد إجادته اللعبة السياسية. هذا التنظير الذي قدمه القذافي يُعد بحق أهم تطوير للنظرية النيابية من شأن الأخذ به العمل على توسيع دائرة المشاركة السياسية، وإصلاح التجربة النيابية، غير أنّه استعدى على القذافي كل المستفيدين من اللعبة النيابية في داخل بلاده وفي خارجها. خاصة وإنّه لم يقدمه على أنّه إصلاح وتطوير للممارسة النيابية بل تقويض لها، وهو ما أدى إلى استعداء كافة النخب السياسية والمالية في العالم! وكافة الأحزاب والحكومات، والشركات الكبرى والصغرى، والطبقات الاحتكارية المتضررة من دعوته إلى الحد من احتكار السلطة، والتوقف عن استخدام المال لشراء السياسيين.

 ولم يقتصر تنظير القذافي على تحطيم احتكار السلطة بل نظر لنبذ احتكار المعرفة والفن والرياضة، وهو ما جعله في مواجهة النخب المثقفة ونجوم الفن والرياضة أيضاً؛ حيث لم يمنحهم تنظيره دوراً مميزاً وهم النرجسيون بامتياز والمجبولون على نزعة التميّز، فسفه القذافي الآراء التي تتحدث عن دور مميز للنخب المثقفة: كالطليعة والصفوة ورأى بأنهم ينبغي أن يمارسوا دورهم بين الجموع في الدوائر الانتخابية التي سماها “المؤتمرات الشعبية” دون تحويلهم إلى نجوم أو أصنام تعبد، ودون أن يتميزوا عن الناس في ملابسهم ومركوبهم ومكانتهم، ودون أن يصبح الناس يركضون وراءهم ليحصلوا على حاجاتهم، أو حتى ليصوروا معهم، أو ليوقعوا لهم على أجسادهم، أو صورهم للتفاخر بها، كما رفض تنظيره السياسي تحويلهم إلى نواب يتقاضون آلاف الدولارات أو الدينارات، فينسلخون عن العامة، ويلتحقون ببارونات المال والذين يسميهم المستكبرين في الأرض. وهو ما استعدى عليه النخب المثقفة.

  كما نظّر ضد احتكار السلطة الدينية، واحتكار تفسير نصوص الدين من قبل الفقهاء؛ وسفه الطائفية والمذهبية واعتبرها تفريق للدين، وانتقد الاحتكام للروايات والأحاديث عوضاً عن الاحتكام للقرآن، ورفض فكرة أن تكون الأحاديث شريعة للمجتمع، وكرس فكرة الاقتصار على القرآن كشريعة للمجتمع، وضرورة استبعاد الأحاديث التي تناقض القرآن، ورأى بأنّه لا رجال دين ولا وسطاء بين الله والعباد في الإسلام، فدعا إلى ألغاء وظيفة المفتي حتى تنتهي الوساطة بين الله والعباد؛ فاستعدى عليه الفقهاء والشيوخ.

  وفي تنظيره للشراكة، وهي بالمناسبة تختلف تماماً عن الاشتراكية، وإن أخطاء القذافي بتسميتها بالاشتراكية؛ فالشراكة ترفض القطاع العام بنفس درجة رفضها للقطاع الخاص، وإن بعدت الممارسة الاقتصادية في ليبيا عن ذلك؛ فهي باختصار ترفض أن يكون العمال مجرد أدوات انتاج “أدرع عاملة” تدخل في تصنيف التكاليف في المشروع الاقتصادي، بل رأى بأنّه ينبغي أن تؤنسن فلا تعامل كالآلات بل تعامل كشريك لأصحاب رأس المال، وتكون حصتهم من الدخل ضمن عائدات المشروع لا تكلفته، ويتم الاتفاق عليها عند التعاقد. وهو بهذا التنظير وإن انتصر للإجراء والمستضعفين فقد استعدى عليه كافة النخب المسيطرة على المال، والتي ترفض أن ينتقل العمال من خانة الأدوات والوسائل إلى خانة المشاركين في المشروع، وأن تنتقل دخولهم من خانة التكاليف إلى خانة العائدات، وهو ما ينهي قضية الحوسلة أي تحويل الآدميين إلى وسائل إنتاج أو إلى سلع.

  وفي تنظيره للبيت لساكنه قال: بأنّ أرباب العقارات ستعبدون المستأجر فيجعلونه يعمل سخرة لمصلحتهم حيث تأتي إيجارات العقارات في بعض البلدان على 100% من الدخل الشهري للذين لا يملكون سوى جهدهم، فيجعلهم نظام الكراء كالعبيد الذين يعملون على مدار الساعة من أجل أرباب العقارات في حين لو تدخلت الدولة ومنعت الحيتان الكبيرة من الاستثمار في العقارات لغرض الإيجار لرخصت العقارات وصارت في متناول ذوي الدخل المحدود. خاصة حين تتولى الدولة ضمان القروض العقارية. غير أنّه بهذا التنظير استعدى عليه أرباب العقارات في بلاده والعالم.  

  وفي تنظيره للحد من الوسطاء في التجارة الذين تذهب إليهم أكثر من 75% من سعر السلع النهائية بينما يتحصل المنتج الأصلي على 25% من ثمنها النهائي على أحسن الفروض. استعدى على نفسه التجار في بلاده والعالم.   

القذافي واستعداء الغرب والقوى الكبرى:

   لم يبلغ قائد سياسي ينتمي للعالم الثالث درجة عداء القذافي للغرب والحضارة الغربية، وللممارسات الامبريالية الغربية، وعقدة المركزية الغربية ؛ حيث في مجال التنظير انتقد القذافي بشدة ما وصل إليه العقل الغربي من مكتسبات في السياسة والاقتصاد والاجتماع وبشقيه الليبرالي والماركسي، واعتبره زائفاً، ويعيد انتاج النظم السابقة كأنظمة الرق والإقطاع، ويجمع بين الديكتاتورية والاستغلال، وهو ما اختصره في مصطلح “نظريات العسف والاستغلال” فاستعدى عليه الأوربيين جميعاً الشرقيين منهم قبل الغربيين، والماركسيين قبل الليبراليين.

كما انتقد الخروج عن الفطرة والروابط الاجتماعية الطبيعية، وما أدى إليه من انهيار منظومة القيم التي توفرها البنى الطبيعية كالعائلة والقبيلة، التي توفر رقيباً اجتماعياً هو بمثابة الضمير الجمعي الذي يقاوم كافة ألوان الرذيلة والجريمة، التي تعتبرها تلك الروابط ارتكاباً للعيب، وخروجاً عن الأعراف؛ حيث رأى بأنّ السوقة “منظرو السوق” هم من زين للناس تلك الرذائل، واعتبروا ممارستها شكلاً من أشكال الحرية، والتمرد على الجمود والمؤسسات التقليدية التي تحد من حرية الفرد، فشرعنوا الرذائل باسم الحريات الفردية، واستحدثوا مؤسسات اصطناعية بديلة للمؤسسات الطبيعية؛ فصار النادي الاجتماعي والجمعية غير الحكومية بديلاً للقبيلة، وصارت الشراكة الجنسية بديلاً للأسرة أو العائلة، بل والزواج المثلي بديلاً عن الزواج الفطري أو الشرعي. فاستعدى عليه الليبراليين والعلمانيين وكذلك محبي الرذيلة والذين يريدون أن تنتشر الفاحشة في مجتمعاتهم باسم ممارسة الحريات الفردية.

كما رفض الدستور واعتبره تشريع يصنعه الطرف الأقوى في المجتمع ليغمط به حقوق الطرف الأضعف، وإن بدأ له بأنّه ينصفه. ورأى بأنّ لا قدسية ولا ثبات لقانون يصنعه البشر، والشريعة التي تتصف بالثبات والقدسية فقط هي الدين، وقصر التشريع في بلاده على الكتاب المقدس “القرآن”، دون المدونات الحديثية التي اعتبرها في الغالب من صنع الرواة، الذين استخدمتهم النخب المسيطرة على الجاه والمال زمن بني أمية وبني العباس لصياغة دستور بشري يرمي إلى المحافظة على امتيازات الطرف الأقوى، والنيل من حقوق الطرف الأضعف في المجتمع أنذاك. ودعا إلى إعادة النظر في تأويل القرآن بعيداً عن تلك المدونات والروايات وهو ما جر عليه الكثير من الويلات التي كان من بينها التكفير! فاعتبره الفقهاء والشيوخ مبتدعاً وكافراً، كما اعتبرته الكنيسة الليبرالية مهرطقاً إذ لم يؤمن بالدستور والوصايا العشرة لليبرالية ولم يذعن إلى تعاليم كنيسة السوق.

كما رفض الممارسات الاستعمارية بشقيها الكولنيالي والامبريالي ونبه في محاضرة له بعنوان: “الاستعمار والفراغ” إلى أنّ الاستعمار ظاهرة إذا توافرت شروطها عادت، ولا ينبغي أن نركن إلى الوهم القائل بأنّ الاستعمار كالرق ظاهرة تنتمي إلى الماضي، ولا يمكن للعالم المتمدين العودة إليها. وهو ما وقع فعلاً بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي.

  كما رفض هيمنة القوى الكبرى على الشعوب الصغيرة والضعيفة؛ فطالب بإلغاء امتيازات القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وتحويل الأمم المتحدة إلى منظمة ديمقراطية تتخذ فيه القرارات بالأغلبية، دون النظر إلى حجم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدولة العضو بالمنتظم الدولي، وإذا كان ثمة من امتيازات كالنقض فينبغي أن تعطى للقارات وليس للدول. فاستعدى عليه القوى الكبرى وبمختلف توجهاتها أيضاً.  

صناعة الأعداء في الممارسة:

الممارسة السياسية: حين شرع القذافي في تطبيق تنظيراته السياسية لم يصدر تشريعاً يضع النائب في البرلمان تحت سطوة دائرته الانتخابية، واكتفى بذلك، بل أعلن بأنه لم يعد ثمة حاكم ومحكوم، وقام بتحريض الناس على اقتحام مؤسسات الإدارة المحلية، وتشكيل مجالس إدارة لها سماها اللجان الشعبية، هذه الخطوة استعدت عليه كل من يؤمن بهيبة الدولة واحترام مؤسساتها، واعتبر الخطوة التي أقدم عليها القذافي تدميراً للدولة ولمؤسساتها. وهي خطوة لا ضرورة لها، في تقديري، غير أنّه كان يرى فيها تحطيماً لصنم الدولة التي تعوّد أن يخشاه الشعب، في حين ينبغي لمؤسسات الدولة أن تخشى الشعب، وتعمل على خدمته، غير أنّ الأمر انقلب رأسا على عقب في كل البلدان، وصار الشعب في خدمة الحكومة وليس العكس. وهو ما استعدى عليه كل الذين ينحازون لفكرة هيبة الدولة، والذين يحتكرون الوظائف القيادية فيها، والذين يرون بأنّ الممارسة السياسية لا ينبغي أن تتجاوز النخب السياسية المحترفة والمتخصصة، أمّا العامة فيكفيهم اسقاط أوراقهم في صناديق الانتخاب.

   كما دعا إلى إلغاء الأحزاب على أساس إنّ الأحزاب تسعى إلى الوصول إلى السلطة، وحين تتحقق سطوة الدائرة الانتخابية على النائب تتحقق في تقديره سلطة الشعب، وسلطة الكل تفضل سلطة الجزء، وتمنع احتكار الجزء للسلطة، غير أنّه كان من الممكن السماح للأحزاب بالعمل في تجربته الجماهيرية، شريطة عدم السعي لاحتكار السلطة وتعطيل سطوة الدائرة الانتخابية على النائب. وهو ما استعدى عليه كافة أعضاء الأحزاب الساسية في بلاده والخارج.

الممارسة الاشتراكية: حين شرع القذافي في تطبيق الشراكة حرض العمال على السيطرة على الشركات والمصانع والمؤسسات الاقتصادية، وتشكيل مجالس إدارة لتسييرها، في حين كان يمكن اصدار تشريعات تجعل العمال شركاء، وتجعل دخولهم جزءاً من العائدات وليس جزءاً من التكاليف، غير أنّ القذافي كان يرى بأنّ التغير الذي يتم من أعلى، ومن خلال إصدار القوانين يسهل إلغاءه بقانون، ولا يدافع عنه المستفيد من القانون. غير أنّ المستفيدين من تحريضه على السيطرة على تلك المؤسسات لم يستميتوا في الدفاع عن مكتسباتهم في انقلاب عام 1911 المدعوم غربياً، والذي كان انقلاباً على المكتسبات الجماهيرية لمصلحة الإقطاع المالي والسياسي، الذي أعاد بارونات المال وبارونات السياسة في ليبيا إلى الصدارة بعد أربعة عقود من سطوة المستضعفين والغلابة في ليبيا. وهو ما استعدى على القذافي النخب التي تعودت على السيطرة على الجاه والمال، والتي ترى بأنّ الخبز ينبغي أن يعطى لخبازه، وعلى الرعاة والفلاحين وجامعي القمامة العودة إلى أعمالهم واحترام التخصصات التي من بينها الممارسة السياسية والاقتصادية. 

  كما دعا إلى بناء الشعب المسلح والحد من احتكار السلاح؛ حيث رأى أولاً بأنّ مؤسسة الجيش وحدها لا تكفي لمقاومة المطامع الامبريالية، وأنّه ثانياً يمكن للامبرياليين استخدام مؤسسة الجيش لفرض حالة التبعية السياسية والاقتصادية، كما يحصل في تركيا وباكستان على سبيل المثال لا الحصر، وأنّه ثالثاً يشكل احتكار السلاح من قبل الجيش خطراً على العملية الديمقراطية من خلال الانقلابات العسكرية، وهو ما يتكرر حدوثه في البلدان النامية. وهذا الأمر استعدى عليه كبار الضباط الذين يطمحون إلى أن يكون لهم دوراً سياسياً في بلاده والعالم، وغلف هؤلاء طموحاتهم السياسية بالحرص على مؤسسة الجيش واهميتها، في تحقيق هيبة الدولة رغم أنّ القذافي لم يحل المؤسسة العسكرية، بل أردفها باحتياطي من الجنود يصل إلى المليون، في بلد تعداده لا يزيد عن ستة ملايين، وانتهى نظام القذافي وتعداد المحترفين في الجيش الليبي حوالي 120 ألف عسكري، في حين لم يكن بتونس التي يصل عدد سكانها إلى أربعة أضعاف سكان ليبيا غير 12 ألف عسكري.

  كما دعا إلى بناء الأمن الشعبي، وعدم الركون للمؤسسات الأمنية وحدها، والتي يسهل اختراقها من الأجهزة الأمنية الغربية، بل ينبغي أن يكون الأمن انشغالا وطنيا ومن قبل جميع المواطنين، ودعا إلى فتح الباب للتطوع للعمل في المؤسسة الأمنية بمختلف تخصصاتها، وذلك لتحقيق غرضين الأول الحد من احتكار العملية الأمنية، والحد من تحول الأمن إلى عصا في يد الحكومات لقمع المواطنين عوضاً عن تحقيق الأمن لهم. والثاني: تفعيل الأمن الوطني، والحيلولة دون اختراق المؤسسات الأمنية لمصلحة القوى الامبريالية. وهو ما استعدى على القذافي كبار ضباط الشرطة الذين اعتادوا على قمع المواطنين، وعلى اكتساب هيبتهم وامتيازاتهم من تلك الوظيفة القمعية. 

  وكل هذه السياسات التي نفذها القذافي والتي تخدم المواطن بالدرجة الأولى اختارت لها جمعية المتضررين من تنظير وممارسات القذافي عنوان: “تدمير الدولة وتدمير المؤسسات” وما نفذه القذافي لم يكن إطلاقاً تدميراً للدولة، ولا لمؤسساتها بل كان تقوية لمؤسسات الدولة، برفدها بدعم من الشعب من خلال أعطاء دور أساسي للمواطنين لتفعيل تلك المؤسسات وإن شاب الممارسة الكثير من الأخطاء.     

  يضاف إلى كل ذلك ما صاحب التجربة الجماهيرية من ضعف شديد للقوة الناعمة، وعلى نحو خاص العملية الإعلامية، وكذلك ما يمكن تسميته بسوء الإخراج الذي صاحب كل تلك السياسات؛ فالقذافي يقدم كل شيء يقدم على تنفيذه على حقيقته، ولا يصنع له سيناريوهات تجّمله كما يفعل الساسة، فهو لا يحسب نفسه على الساسة، بل هو يعتبر نفسه صاحب دعوة، ويرفض أن يقدم نفسه أو سياساته على غير حقيقتها، ودعنا هنا نعطي  مثالاً أوروبيا عن حسن الإخراج، وأخر من سياسات القذافي الضعيفة الإخراج؛ الأول: مقاومة الهجرة الشرعية أو استغلالها للتدخل في ليبيا: ما أن قررت بلدان الاتحاد الأوربي التصدي العسكري للهجرة غير الشرعية، أو استخدامها كذريعة للتدخل العسكري في ليبيا هذه الأيام، حتى تحركت الماكينات الإعلامية والسياسية لصناعة أخبار مفبركة عن إنقاذ الغرقى وبالآلاف من المهاجرين غير الشرعيين كل يوم، حتى تظهر أية عمليات قصف مستقبلية، أو أية مصادرة للقوارب التي يقرر الغربيون بأنها تقوم بالمشاركة في تهريب المهاجرين من أمام السواحل الليبية بمظهر إنساني، فالمغيرون على قوارب الصيد الليبية هم مسيح جديد ينقذ المهاجرين من موت محقق، ويقتل صنّاع الموت، والمتاجرين بحياة البشر، في حين للعملية مآرب أخرى، قد يكون من بينها التمهيد لتدخل عسكري في ليبيا، أو قتل الذين يفكرون بالهجرة إلى أوربا في عرض البحر حتى لا يجرؤ غيرهم على التفكير بالهجرة، أو حضر الصيد على الصيادين الليبيين وفتحه أمام الصيادين الأوربيين في المياه الإقليمية الليبية.

الثاني: مقاومة اتفاق أوسلو: اعتبر القذافي اتفاق أسلو اتفاقاً مفرطاً في القضية الفلسطينية، وهو من منظوره القومي لا يرى أحقية الفلسطينيين في التفريط في القضية الفلسطينية، ويرى بأنّ الخطر الإسرائيلي لا يقتصر على فلسطين، بل هو خطر على المنطقة العربية بكاملها، ومن ثم سعى لفضح هذا الاتفاق، وخاطر بكل رصيد محبة الفلسطينيين له، لدعمه غير المحدود لكافة الفصائل الفلسطينية، ولمعاملة الفلسطينيين في ليبيا معاملة الليبيين، وذلك بقيامه بطرد الفلسطينيين من ليبيا إلى منطقة حدودية بين ليبيا ومصر، قائلاً: بأنّ على الذين وقعوا اتفاق أوسلو المفرط في حقوق اللاجئين الفلسطينيين حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا، وهو عمل إعلامي كان يهدف إلى إحراج القيادة الفلسطينية الموقعة على اتفاق أوسلو، والذي اتضح أنّه اتفاق مضر بالفلسطينيين، ومفرط في حقوقهم، وكل ما حققه هو رفع الحرج عن الحكومة الإسرائيلية في استخدام الطائرات والصواريخ لضرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، باعتبارهم صاروا مستقلين مع وقف التنفيذ. وما فعله القذافي أظهره في وسائل الإعلام العربي والدولي على أنّه أقسى على الفلسطينيين من إسرائيل، فهاهو يطردهم من ليبيا وإسرائيل لم تفعل ذلك! ولقد كان مخطئاً في استثمار معاناة الفلسطينيين سياسياً ضد قيادتهم حتماً، وهذه مشكلة القذافي الرئيسية فهو لا يحسن الإخراج أو بمعنى أدق لا يحفل به.       

التعامل مع الغرب: لعل أول اصطدام للقذافي مع الغربيين كان مع الطليان، وكان ذلك حين طرد عشرات الآلاف من المستوطنين الطليان، الذين كانوا يسيطرون على جل الأراضي الخصبة في ليبيا، وعلى القطاعين الصناعي والخدمي فيها، وكذلك رفض وبشدة دخول الشركات الإيطالية إلى ليبيا قبل أن يعتذر الطليان للشعب الليبي عن غزوهم لليبيا، وقتلهم حوالي نصف سكانها، وهو ما استعدى عليه الطليان وعلى نحو خاص اليمين الايطالي. كما استعدى عليه الانجليز والأمريكان حين قام بطرد القواعد الامريكية والبريطانية وكذلك حين قام بدعم كافة حركات التحرير في العالم على نحو عام، والمقاومة لأنظمة الميز العنصري في افريقيا على نحو خاص، وكذلك دعم الحكومات المناوئة للغرب الاستعماري أينما وجدت ودون شروط. كما استعدى عليه الشركات المتعددة الجنسية وعلى نحو خاص شركات النفط حين قاد معركة السيطرة على الثروة النفطية، وانتزاع القرارات المتعلقة ببيع النفط وتسعيره من قبضة تلك الشركات، بل وتأميمه لبعض من تلك الشركات كالشركة البريطانية British Petroleum        

 ثم هو لم يكل ولم يمل من الدعوة إلى حوار الجنوب الجنوب، والدعوة لإنشاء التكتلات السياسية والاقتصادية لبلدان الجنوب، حتى تتحرر من هيمنة بلدان الشمال، وهو ما استعدى عليه بلدان الشمال القوية والفاعلة. كما دعا إلى التحرر من الهيمنة الثقافية للغرب ونبذ موضاتهم، وملابسهم، وتسريحاتهم، وطرق تصميمهم للمدن والمباني، واستبدل تقويمهم وتسميات شهورهم بغيرها، رفضاً لقياصرتهم، ولإلهة الرومان، الإمبراطورية التي ورث عنها الغرب الاستعلاء على بقية شعوب الأرض، وورث عنها النزعات العرقية والتوسعية.

  كما سن سنة جديدة في التعامل مع الغرب، ما سبقه عليها من أحد من قادة بلدان الجنوب، حين طبق سياسة المعاملة بالمثل مع القوى الامبريالية؛ فدعم المنظمات التي تصنفها البلدان الغربية منظمات إرهابية، وفي مقدمتها الجيش الجمهوري الأيرلندي، واوعز إلى صحفّي مقرّب منه إلى أن يكتب مقالاً موجهاً للغرب يقول: بأنّه إمّا أن تتوقفوا عن دعم عملائكم في المنطقة العربية، والذين يمارسون الإرهاب ضدنا، وإلاّ فسندعم بادرماينهوف، والألوية الحمراء، والعمل المباشر، والجيش الجمهوري الايرلندي، والتوبماروس وما إلى ذلك. وتبع ذلك بالعمل بكافة الوسائل على تحرير إرادة الشعوب الصغيرة، ودفعها لمقاومة التبعية وعلى نحو خاص في افريقيا، كما تبنى العمل على تحرير إرادة الفئات المضطهدة وفي مقدمتها الهنود الحمر، والسود في أمريكا. كما لم يحفل يوماً بالأعراف الدبلوماسية الغربية وكان يتعمد عدم التقيد بالبروتكول الذي فرضه الغربيون على العالم. وكان ذلك يثير حنق الغربيين عليه، ويجعلهم يتندرون عليه وعلى تقليعاته الجنونية التي وإن بالغ فيها، فيسجل له فيها التمرد على عقدة المركزية الأوربية، فهو قد يرتدي ملابس افريقية فاقعة الألوان، أو ملابس هندية حمراء ليغيظ الأوربيين، لكنه يرفض مطلقاً أن يرتدي بدلة أوربية كاملة، وبربطة عنق، كما يقتضي البروتوكول حتى في البلدان غير الغربية.

التعامل مع العرب: لم يكن القذافي يحصر اهتمامه بليبيا وهو ما أثار عليه حنق دعاة الوطنية الليبية الذين هم على شاكلة زعماء حزب الكتائب، وحزب المستقبل والقوات اللبنانية في لبنان، يلبسون قميص الوطنية فقط ليزايدوا به على المقاومة اللبنانية للهيمنة الصهيونية والغربية على لبنان، فهم يدعون إلى أن تكون لبنان للبنانيين ” طبعاً اللبنانيين المتلبسين بعشق الغرب وإسرائيل”، فهل يمكن للبناني أن يكون وطنياً وهو يعادي المقاومة اللبنانية للمشروعين الصهيوني والامبريالي في لبنان؟ والمقاوم اللبناني لا يستطيع أن يمتلك مقومات المقاومة دون أن يتحالف مع المقاومين للمشروعين المذكورين في المنطقة، فيتباكى الوطنيون الكتائبيون، والمستقبليون “نسبة إلى حزب المستقبل” على لبنان، ويشهرون سلاح الوطنية ضد المتعبدين في محراب الوطن اللبناني، والمقدمين أنفسهم قرباناً للبنان، بواسطة تسويق أوهام عن ارتهان لبنان للخارج المقاوم بينما هم يرهنونها لإسرائيل وأمريكا وباسم الوطنية! فالقذافي كان يذود عن نيل مصر كما يذود عن حدوده الجنوبية، وكان يقاوم الحضور الصهيوني في القارة الأفريقية، والمشروعات الإسرائيلية لتجويع مصر، وتقليل حصتها من الماء حتى في أشد حالات العداء مع حكام القاهرة. ولو نشرت اديس ابابا سجل علاقاتها مع ليبيا زمن القذافي لعرف العالم كيف كان القذافي يتعامل مع العرب. غير أنّه من ناحية أخرى كان يحرض ضد الحكومات العربية العميلة للغرب والمهادنة للصهيونية، وهو ما استعدى عليه كافة الحكومات العربية إلاّ ما رحم ربي. كما ركض القذافي وراء الوحدة دون كلل ولا ملل، وأحرج الحكومات العربية بدعواته تلك، وهو ما استعدى عليه الملوك والرؤساء العرب، والقوى السياسية المستفيدة من التجزئة العربية، ومن الدولة القطرية، وأشاعوا عنه عدم جديته في تلك الدعوة، وأنّه كان يبحث عن زعامة وما إلى ذلك، بينما كان الرجل جاداً ومخلصاً لها بدون حدود، والذين دخلوا معه في تجارب وحدوية دخلوها لحسابات تكتيكية، إمّا للضغط على دولة مجاورة، أو للاحتماء من ضغوط دولة مجاورة، أو من أجل إيقافه دعم البوليساريو، أو للحد من دعمه ومساندته للموقف الجزائري من الصحراء الغربية، أو من أجل الخروج من مآزق وأزمات محلية، أو من أجل امتصاص نقمة الشارع المطالب بالوحدة، أو حتى من أجل كبح وتيرة اندفاع القذافي في اتجاه تحقيق مشروعاته الوحدوية، وكل ذلك كان يستعدي عليه كل المستفيدين من الدولة القطرية، والمتضررين من الدعوات الوحدوية.    

  كما لم يتوقف القذافي عن إحراج الحكومات العربية المتقاعسة عن مقاومة المشروعين الامبريالي والصهيوني في المنطقة، بل والمتواطئة معهما كحكام الخليج، والملكيات العربية، التي كافأها الغرب بصد فتن الربيع العربي عنها رغم كونها أكثر ديكتاتورية من النظم التي استهدفت بتلك الفتن، والتي اشعلت بذريعة نشر الديمقراطية.

  كما دعا إلى تصدير الثورة والفكرة الجماهيرية إلى كل بلدان العالم، وفي مقدمتها البلدان العربية، وهو ما زاد من حنق حكامها على القذافي. كما دعا إلى منح الأقليات التي تنتمي إلى أمة ممزقة استقلالها كما هو حال الأكراد، ودعم الثورة الإيرانية ضد صدام، وهو ما استعدى عليه القوميين العرب، الذين كانوا يتلقون الدعم منه، وكذلك طائفة أهل السنة الذين راءوا في هذا الدعم خيانة للطائفة السنية، التي من المفترض أنه ينتمي إليها، غير أنّ القذافي بوصلته فلسطين، والعداء للمشروعين الامبريالي والصهيوني، ولم يقبل باستخدام الغرب للحكومة العراقية زمن صدام حسين ضد الثورة الايرانية، التي تقاوم المشروعين دون هوادة. ثم إنّه لم والقذافي لم يكن قومياً شوفينياً بل هو فقط يتمسك بفكرة الدولة القومية، ويرى بأنّه من حق كل أمة أن تكون لها دولة ودون استثناء أي أمة ومنها الأمة الكردية.

لوكربي القشة التي قصمت ظهر القذافي:

  حين نفذ صبر صنّاع القرار في الولايات المتحدة على القذافي، تم فبركة بعض الملفات لتبرير العمل على اسقاطه، كان أولها اتهامه بتفجير ملهى برلين، ثم اتهامه بالسعي للحصول أسلحة كيماوية، ثم اتهامه بإسقاط طائرة البانام الأمريكية فوق قرية لوكربي البريطانية، والتي ترتب عليها عقوبات شملت منع الطيران المدني من الهبوط في المطارات الليبية، ومنع تصدير السلاح، والمواد التي يمكن الاستفادة منها في تصنيع السلاح. وبالغ القذافي في التحوط من السياسات العدائية الغربية ضده؛ فأوقف الاستيراد إلاّ على السلع الضرورية جداً، وأوقف تنفيذ المشروعات التنموية، ليحتفظ بالمليارات من العملات الصعبة وضعها في حساب اسماه “المجنب” تراوحت بين 500 و 700 مليار دولار، وهو ما ضاعف من معاناة شعبه؛ حيث كان يستعد لمعركة طويلة الأجل مع أمريكا والقوى الامبريالية، غير أنّ العقوبات والسياسات التقشفية التي انتهجها ساهمتا معاً في تنامي النقمة الشعبية عليه، وهو ما دفعه إلى محاولة التصالح مع أمريكا والغرب. وكان ثمن التصالح باهظاً؛ حيث ذهب القذافي بعيداً في قبول الشروط الأمريكية، فتبنى بعض سياسات الليبراليين الجدد، المناقضة تماماً لتنظيراته، ولمكابرته وخشيته من الظهور بمظهر المستسلم للأمريكيين، تبنى تلك الخيارات بعد تحويرها قليلاً، على أنها جزء من تنظيراته: كخصخصة العلاج، والتعليم، وحتى تأسيس الشركات الأمنية، اسماها “تشاركيات” ساهمت في رفع فاتورة تكاليف المعيشة في ليبيا، وزادت من معدلات الطالة، ودقت اسفيناً بينه وبين الفقراء وذوي الدخل المحدود، والذين يشكلون أغلبية مناصريه، وحين أدار ظهره للقضايا العربية استجابة للشروط الأمريكية، أو حتى استباقاً لها لإرضاء صنّاع القرار الأمريكي، خسر تأييد القوميين سواء في ليبيا، أو في المنطقة العربية. كما أدت استجابته للشروط الأمريكية للتصالح مع المعارضة المدعومة من الغرب، إلى خسارته لأعضاء اللجان الثورية، الذين شعروا أيضاً بالتهميش لمصلحة تحالف المنادين بالتوريث لسيف*، فخسر بذلك تأييد الحركة السياسية التي أسسها بعد أن ظهر الأمر وكأن القذافي يستخدم الحركة الثورية ككبش فداء للتصالح مع المعارضة والتصالح مع الغرب. فكانت استجابته للشروط الأمريكية القشة التي قصمت ظهره وجعلت أنصاره يترددون في القتال إلى جانبه وهو يتخلى عن ثوابته وعنهم.

خاتمة:

  كان هم القذافي الرئيسي الحد من طغيان النخب المسيطرة على الجاه والمال، والثقافة، والممارسة السياسية؛ فرأى بأنّه لا مجال لتوسيع دائرة الممارسة السياسية، دون الحد من احتكار النخب لها؛ حيث جرت العادة أن تركب النخب على أكتاف الشعب لتتسلط عليه وباسمه! والوقائع التاريخية تفيد بأنّ النخب تسرق الثورات والتغيير، وتوظفه لمصلحتها لتحل محل الطغاة الذين ثار ضدهم الشعب، فالنخب المسيطرة على المال وعلى الممارسة السياسية وظفت الثورة الفرنسية لمصلحتها، وحلت محل النبلاء والإقطاعيين، فحل نبلاء المال محل نبلاء الأرض، وتحالف معهم نبلاء السياسة، فضاعت حقوق الذين فجروا الثورة، والذين كانوا وقوداً لها سواء كانوا من الأقنان أو من العمال بالأجر، وهو ما أذى إلى استحواذ النخب على كعكة الجاه والمال في فرنسا. وحصل نفس الأمر في الثورة الروسية؛ حيث حلت النخب التي انخرطت في الحزب الشيوعي محل الإقطاعيين الزراعيين ومحل البرجوازيين، وركبت ظهور العمال والفلاحين الذين كانوا وقود الثورة، وضاعت حقوقهم والأماني التي وعدوا بها قبل الثورة الروسية. والوقائع التاريخية في ليبيا تؤكد بأنّه ما أن تتحقق سطوة النخب حتى تضيع مصالح الشعب؛ فالنخب تمكنت من السيطرة على مقاليد البلاد في الثلاثينيات من القرن الماضي، فأشعلت حرباً أهلية أضاعت البلاد والعباد، ولم تتورع عن التآمر مع الإيطاليين لتحقيق الغلبة على خصومهم المحليين. وما أن لاحت لهم الفرصة من جديد في العقد الثاني من فاتحة الألفية الثالثة حتى تآمروا مع الغرب على بلادهم، فأحرقوا الأخضر واليابس فيها، وما يزالون يتصارعون على المكاسب دون أن يتنبهوا إلى أنهم يغرقون سفينة الوطن بما فيها من مكاسب. والقذافي لم يكن طاغية كما تصوره وسائل الإعلام الغربية التمويل والهوى والعربية اللسان، والتي تستهدف غسيل أدمغة العرب لمصلحة الغرب ومشروعاته الامبريالية في المنطقة، وكما تصوره النخب الليبية التي أرادت أن تستحوذ على الجاه والمال من دون الشعب، فوجدت القذافي وأنصاره لهم بالمرصاد. أمّا الشعب الليبي فسيدرك أجلاً أم عاجلاً بأنّ القذافي كان يذود عن سطوة الشعب في مواجهة سطوة النخب أو طغيان النخب، وهو ما يعيشه الليبيون يوماً بيوم منذ 20 اكتوبر 2011 وإلى الآن.

*هامش: لم يكن القذافي ينوي أن يورث القيادة إلى ابنه سيف، غير أنّه كان يستخدم الأمر ليبعد انشوطة الغرب عن رقبته، لعلمه بولوع سيف بالغرب وثقافته، وبرضاء الغرب عنه.

 

 



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*


Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *