صراعات-النخب-السياسية-والعسكرية-في-ال-4

الرئيسية » الكتاب المتسلسل للتقدمية » صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة الرابعة. كتاب رياض الصيداوي

صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة الرابعة. كتاب رياض الصيداوي

في الكتاب المتسلسل للتقدمية

15 سبتمبر 2015
0
209 زيارة

صراعات النخب الجزائرية2 – الجناح العسكري : تزايد نفوذ

حققت جبهة التحرير الوطني بعد أربع سنوات من الكفاح المسلح ومن النشاط السياسي الديبلوماسي في الخارج، نجاحات كبيرة، جعلتها القوة الأساسية في الداخل بعد إزاحتها للحركة الوطنية الجزائرية بقيادة مصالي الحاج، وبعد أن أصبحت الممثل الحقيقي في الخارج المعترف به من قبل الدول العربية والمجموعة الاشتراكية-الشيوعية.
تولد عن هذا النضج الميداني، فكرة ضرورة تشكيل حكومة جزائرية مؤقتة، تؤطر أكثر كفاح الجبهة من جهة، وتكون مشروع الدولة الجزائرية المستقلة القادمة.
وفي 19 سبتمبر/أيلول 1958، تم الإعلان عـن تشـكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (G.P.R.A.) برئاسة فرحات عباس. ولم تكن مسألة تكوينها معقدة، فقد قامت لجنة التنسيق والتنفيذ بحل نفسها كلجنة وإعادة تهيكلها كحكومة أضيف لها بن خده ومحمد يزيد. حدث ذلك بدون الرجوع إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، والمفترض أن يكون أعلى جهاز قانوني للجبهة، وبالتالي أن يحدث تغييره بموافقته وإشرافه، غير أنه لم يسجل اعتراض أعضائه، بل تم استقباله بالترحيب .
كما تم الاعلان عن تشكيل “لجنة بيووزارية” للحرب، متكونة من الثلاثي: كريم، بوصوف، بن طوبال، مهمتها الاشراف على جيش التحرير الوطني، من خلال جهاز جديد وحد القيادة العسكرية، وأطلق عليه اسم “هيئة الأركان العامة” وعهد برئاسته إلى هواري بومدين .

أ ـ تأسيس هيئة الأركان العامة: بروز عصبية عسكرية

عمل بومدين ، عندما كان قائدا للولاية الخامسة على انتداب تلامذة الثانوي الجزائريين الذين يدرسون بمدينة وجدة المغربية، فقد كان واعيا أن التطور السريع الذي يشهده جيش التحرير الوطني، يحتاج إلى مستوى رفيع من التنظيم والدعم “اللوجستيكي”، مما يعني ضرورة تجنيد ضباطا يحسنون قراءة وكتابة التقارير، فعمل على ضم هؤلاء التلاميذ إلى جيشه، وشكل بهم نواة صلبة عرفت بـ”مجموعة وجدة” مـن بين أعضائها عـبد العزيز بوتفليقة (18 سنة)، بلقـاسم شـريف (23 سنة)، أحمد مدغري (22 سنة) .
وغرس في هذه المجموعة عصبية عسكرية متميزة تدين له بالولاء فقد كان يقول لهم باستمرار “يجب علينا أن نكون كصفيحة من الفولاذ”، كما كان يدعوهم إلى المحافظة على قدسية الواجب والانضباط وإلى روح التضامن فيما بينهم، وإلى ضرورة الحذر من قادة الولايات في الداخل، ومن سياسيي الحكومة الجزائرية المؤقتة .
تميزت هذه المجموعة عن غيرها من الأجنحة، باندماجها التام، وانصهارها في إرادة قائدها وزعيمها الكاريزمي بومدين، فقد تمكن من خلالها، من إحكام قبضته على قيادة الأركان وعلى “جيش الحدود” الذي أصبح قائده الوحيد، وزاد من شعبيته عند جيشه انتقاداته الحادة للحكـومة المؤقتـة فـي مساعيها مـن أجل إيجـاد حـل دبلوماسي للقضـية الجزائرية، إذ كان ينادي بمواصلة الخيار العسكري .
نجح بومدين إذن، رغم صغر سنه (31 سنة)، في بناء جيش يدين له بالطاعة، فقد طغى الجانب العسكري على أسلوبه في العمل، فلم تكن له خبرة سياسية قبل التحاقه بجبهة التحرير، إذ لم ينتم إلى أي حزب سياسي قبلها، ولكنه أظهر براعة فائقة في القيادة والتخطيط، فكان على حد تعبير فرحات عباس “يعمل بدون كلل، ويستطيع أن يجعل مساعديه يعملون بأقصى جهد ممكن” . ولكن في هذه المرحلة لم يكن بومدين يتحكم إلا في “جيش الحدود”، وكان له بعض الحلفاء مع بعض قادة الولايات كما كان له خصوم مع آخرين.
وفي المقابل أعيد تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة فرحات عباس مرة ثانية، في 18 حزيران/يونيه 1960، واستمرت حتى شهر أغسطس/آب 1961، حيث شكلت الحكومة المؤقتة الثالثة والأخيرة بقيادة بن يوسف بن خدة، ودخلت هذه الحكومة في مفاوضات مباشرة مع السلطات الفرنسية، وبدأ الصراع يصبح علنيا وعنيفا في الآن نفسه بين الحكومة المؤقتة من جهة المشكلة من السياسيين، وهيئة الأركان من جهة ثانية. ووصل هذا الصراع ذروته وكان لكل طرف إستراتيجيته وتكتيكه لإزاحة خصمه. في هذه المعركة الداخلية ستكون نتيجة الصراع حاسمة للمهزوم والمنتصر على حد السواء.
ب – انتصار تحالف : بن بلا و”جيش الحدود”

لم تكن هيئة الأركان قادرة سنة 1962 على استلام السلطة مباشرة، لأسباب تاريخية، حيث يتميز قائدها والمحيطون به بصغر سنهم، وبعدم انتمائهم إلى مجموعة القادة الأوائل الذين أسسوا جبهة التحرير، فلم تكن لهم “الشرعية التاريخية” اللازمة التى تخول لهم استلام مقاليد الحكم. وكانت في مواجهتهم الحكومة المؤقتة التى انتخبت ديموقراطيا من قبل المجلس الوطني للثورة الجزائرية. فقررت أن تبحث لنفسها عن حلفاء سياسيين تتوفر فيهم شروط الشرعية التاريخية لمواجهة خصومها في الحكومة المؤقتة وحلفائها من بعض قادة الولايات المنتمين إلى جيش التحرير الوطني في الداخل. وعقد بومدين العزم على “أن يحتم تحت برنص الزعيم بن بلا” .فاتصل عبد العزيز بوتفليقة ببن بلا ورفاقه المحتجزين معه في فرنسا، وأبلغهم بأسباب الأزمة وبالوسائل التى تقترحها هيئة الأركان لحلها وهي: خلق مكتب سياسي لجبهة التحرير متمايز عن الحكومة المؤقتة ووضع برنامج. فأيد هذا الحل بن بلا وخيضر وبيطاط، ورفضه آيت احمد وبوضياف معتبرينه انقلابا وتدخلا من العسكريين ومن جهته كان بن بلا ومجموعته يعتقدون أنهم سيوظفون هؤلاء الشباب المتحمس ليزيحوا بدورهم خصومهم السياسيين ويصلون من خلالهم إلى السلطة. وحينما خرجوا من السجن، واصلوا مسعاهم في حشد الحلفاء ضد الحكومة المؤقتة وانفجر الصراع علنيا في الاجتماع الذي عقده المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس، والذي دام من 27 مايو/أيار إلى 4 حزيران/يونيه 1962 ففرزت القوى المتعادية.
وفي 28 حزيران/يونيه 1962، عقدت الحكومة المؤقتة اجتماعا في تونس، حيث اتخذت قرارا على جانب كبير من الخطورة، إذ يقضي بحل هيئة الأركان وعزل قائدها بومدين ومساعديه منجلي وسليمان (قايد أحمد) .
ولكن، فشل امتحان القوة هذا، فقد اصطف “جيش الحدود” وراء قائده بومدين، وأعلن ضباطه أنهم لن يأتمروا بأوامر الحكومة المؤقتة وسيواصلون العمل تحت أوامر قائد هيئة الأركان .
وتشكلت مجموعتان متنازعتان:
ـ الأولى: سميت “بمجموعة تيزي وزو” ، وأهم قادتها كريم بلقاسم ومحمد بوضياف، متحالفة مع الحكومة المؤقتة، وانضمت إليها الولاية الثالثة والرابعة والثانية إلى جانب فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني، ولقيت دعما خارجيا من تونس، وتشجيعا ضمنيا من قبل فرنسا، لاعتدالها، وعدم رفعها شعارات راديكالية.
ـ الثانية، سميت “بمجموعة تلمسان” ، وعلى رأسها أحمد بن بـلا وهيئة الأركـان والولايات الأولـى والخـامسة والسادسة، وقـد تمكنت من دعم صفوفها بتحالفات ظرفية مع عباس فرحات وأحمد فرنسيس ، ولقيت دعما مباشرا من مصر، وأجهزة مخابراتها وإعلامها التي وقفت مع بن بلا.

إن تحليلا لطبيعة هذه التحالفات داخل جبهة التحرير الوطني يؤدي بنا إلى بعض الاستنتاجات:
ـ أولا: إن هذه التحالفات لم تكتسب طابعا إيديولوجيا، فمجموعة تلمسان مثلا تضم في صفوفها ليبيراليين كفرحات عباس ومحمد خيضر، واشتراكيين كبن بلا وبومدين.
ـ ثانيا: إن هذه التحالفات تغيرت عما كانت عليه في السابق، فلم يكن بوضياف وكريم بلقاسم مثلا حلفاء بالأمس، وإنما جمعتهما مصالح ظرفية.
ـ ثالثا: إن كل مجموعة تضم في صفوفها عسكرا وسياسيين، فقادة الولايات الممثلة لجيش التحرير الوطني في الداخل، انقسموا إلى قسم يؤيد “مجموعة تيزي وزو” وقسم آخر يؤيد “مجموعة تلمسان” في حين أن “جيش الحدود” المتواجد في المغرب وتونس، كان موحدا خلف قائده بومدين. وهو الذي سيرجح كفة الصراع.
وتوالت الأحداث بسرعة، لتثبت تفوقه، فبعد أن أعلن عن الاستقلال في 3 تموز/يوليو 1962، دخلت الحكومة المؤقتة واستقرت في الجزائر العاصمة، في حين شكل أحمد بن بلا مكتبا سياسيا للجبهة في 22 تومز/يوليو، وزحـف جيش الحدود عـلى العاصمة واحتـلها فـي 4 أغسطس/آب 1962، بعد حرب أهلية قصيرة سقط فيها بضعة الاف من القتلى .
وفي 26 سبتمبر/أيلول 1962، تم تعيين أول حكومة مستقلة على رأسها أحمد بن بلا، وضمت 5 وزراء من الجيش اقترحتهم هيئة الأركان وهم:
ـ بومدين: وزير الدفاع
ـ أحمد مدغري: وزير الداخلية
ـ عبدالعزيز بوتفليقة: وزير الشباب والرياضة والسياحة (ثم الخارجية فيما بعد).
ـ موسى حسن: وزير البريد والبرق والهاتف
ـ محمد الصغير النقاش: وزير الصحة.
وكانت هيمنة العسكر واضحة على هذه الحكومة، فقد تقلدوا أهم الوزارات على الاطلاق خصوصا وزارتي الدفاع والداخلية.
ويعد الجيش المنتصر الحقيقي في هذا الصراع الذي عاشته جبهة التحرير، فقد خسر السياسيون في نهاية المطاف إمكانية السيطرة عليه . فعصيان الجيش أوامر الحكومة المؤقتة، والتشبث بقادته، يعني أن عصبية عسكرية قد تم خلقها داخله، تعمل ضد السياسيين الذين لم تر فيهم نموذجا يمكن قبوله لبناء الدولة الجزائرية المستقلة.
ومن ناحية ثانية، عهد إلى محمد خيضر بالأمانة العامة للحزب، فعمل بسرعة على إحكام قبضته عليه. وكان تصوره، أن يترك الرئاسة لبن بلا ويتولى بدوره قيادة الحزب، وصرح مرة فقال: “ليس لي إلا أن أعطى أوامري للحزب وينزل الشعب إلى الشوارع” . لكن سرعان ما تم عزله، من قبل بن بلا بدعم هواري بومدين الذي وحد جيشه تحت اسم الجيش الوطني الشعبي، مما أكد هشاشة الجناح السياسي أمام نفوذ الجناح العسكري.

وانشق محمد بوضياف عن الجبهة وأسس “حزب الثورة الاشتراكية” فتم اعتقاله، وفعل الشيء نفسه حسين آيت احمد وأسس “جبهة القوى الاشتراكية”، وثار في منطقته بالقبايل في 29 سبتمبر/أيلول 1963 ، فاعتقل بدوره، كما انشق محمد شعباني في الصحراء، واعتقل ثم حوكم وأعدم.
تمت في هذه المرحلة تصفية الكثير من القادة التاريخيين للجبهة، وإزاحة معظم السياسيين، حتى بقي احمد بن بلا بمفرده في مواجهة ضباط بومدين المحيطين به من كل مكان. فحاول، بعد أن أدرك متأخرا أن الجبهة-الدولة ، انفرد بها العسكر، أن يعيد التوازن، ثم يتخلص من حلفاء الأمس. لكن هذه المرحلة تميزت أيضا بحد أدنى من التوازن بين الجناح السياسي، والجناح العسكري، فرغم أن الجيش كان أكثر قوة وانضباطا من السياسيين، فإن تواجد أحمد بن بلا في رئاسة الدولة، مثّل عامل توازن، وحاجزا مؤقتا أمام سلطة الجيش، وإذا زال هذا الحاجز، فسينهار معه التوازن، وتصبح هيمنة الجيش مطلقة.

 



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*


صراعات-النخب-السياسية-والعسكرية-في-ال-5

الرئيسية » الكتاب المتسلسل للتقدمية » صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة الخامسة. كتاب رياض الصيداوي

صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة الخامسة. كتاب رياض الصيداوي

في الكتاب المتسلسل للتقدمية

15 سبتمبر 2015
0
343 زيارة

صراعات النخب الجزائريةالفصل الثاني : انهــيار التــوازن

كيف سينهار التوازن داخل الجبهة، ويهيمن الجيش نهائيا على الحزب، ثم ينسحب منه ويتخلى عنه، ليمارس السلطة بدون تلك التغطية السياسية التي قدمتها له جبهة التحرير الوطني؟
سنعالج في هذا الفصل آلية انهيار التوازن بين الجناحين العسكري والسياسي، ونتائجه الوخيمة على الجبهة التي وجدت نفسها في المعارضة، بعيدا عن أجهزة الدولة التي تحكمت فيها طويلا.
تمكن الجيش من الاستيلاء على جزء كبير من أجهزة الدولة ووزاراتها القوية. وتم ذلك في إطار اقتسام بينه وبين رئيس الدولة أحمد بن بلا. وكانت خطة بومدين تعمل على نشر الجيش الوطني الشعبي في كل مكان وتحويله تدريجيا إلى جيش كلاسيكي واستعان في بنائه بكثير من الضباط الجزائريين الذين عملوا سابقا في الجيش الفرنسي . مما أحدث انتقادا عنيفا وجه إليه في مؤتمر جبهة التحرير الوطني الـذي انعقـد فـي 17 أبريل 1964، فقـد هاجمه المدنيون لأنـه حافظ على 200 ضابط جاءوا من الجيش الفرنسي ولأن بعضهم يعد من أقرب مساعديه، مثل مدير مكتبه، العقيد شابو وحينما دافع بومدين عن رأيه “لا أرى فرقا بين موزع بريد أو موظف أو ضابط عمل مع فرنسا، فكلهم كفاءات نحتاجها لتدريب جنودنا وبناء جيشنا، وقد قاموا بواجبهم”، رد عليه بن بلا: “أقول لك يا أخي العزيز، إنك لا يمكن أن تساوي شيئا بدون الحزب، في حين تتمكن من كل شيء بهذا الحزب” . ومن ثمة عاد الصراع بقوة بين السياسي والعسكري، بن بلا محتميا بالحزب وبومدين محتميا بجيشه، وتوالت الأحداث بسرعة.

1 ـ الجيش و19 حزيران/يونيه 1965: الهيمنة المطلقة

يوجد نوعان من الأسباب أديا إلى انقلاب بومدين/الجيش على بن بلا ومجموعته السياسية. الأولى عميقة والثانية مباشرة.
تنحصر الأسباب العميقة في:

_ أولا: اعتقاد راسخ لدى الجيش، بأنه يجب أن يكون المالك الوحيد للدولة التي صنعها، فهو ممثل الشرعية، وبالتالي يجب أن تتجسد السلطة فيه. وعبّأ ضباطه للإيمان بتفوقه على المجتمع والدولة .
_ثانيا: قام بومدين منذ بداية صعوده بالعمل على خلق انسجام سياسي عسكري، أي عصبية، ضد سياسي جبهة التحرير ، وكانت مجموعة وجدة تمثل هذه النواة الصلبة المتكتلة داخل الجيش.
_ ثالثا: طموح شخصي لدى بومدين من أجل الوصول إلى أعلى هرم السلطة، فبمجرد أن تخلص من خصومه السياسيين التاريخيين وهو “محتم ببرنص الزعيم”، وأصبح موقعه محصنا، بادر إلى تحقيق حلمه في 19 حزيران/يونيه 1965، وذكر فيما بعد قائلا “كان لابد أن تعود السلطة إلى أيدي الذين يحسنون قيادة الرجال في ساحة المعركة” .
أما الأسباب المباشرة، فهي تتمثل في شعور عميق لدى بن بلا بعجزه عن الحكم التام، وهو محاط ببومدين وضباطه، وبوقوعه تحت تهديد “دباباتهم” الدائم. فعمل على استخدام صلاحياته كرئيس دولة. وقام بسلسلة من المبادرات هدف من خلالها إلى ضرب بومدين ومجموعته من خلال عزل مدغري، وزير الداخلية، واتخاذ قرار عزل عبد العزيز بوتفليقة، وهما يشكلان مع بومدين وشريف بلقاسم النواة الصلبة “لمجموعة وجدة”. وقام في نفس الوقت بجمع مناصب عديدة في يده، فهو رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء، الأمين العام للحزب، وزير الداخلية، وزير المالية ووزير الاعلام!
523925_10150924388663835_119622873834_12864061_92463567_nوحاول اختراق الجيش، فاستغل سفر بومدين إلى القاهرة، ليعين قائدا جديدا لهيئة الأركان، دون العودة إلى الجيش .
تجمعت كل هذه الأسباب عميقة أو مباشرة لتدفع بالجيش إلى الاستيلاء كلية، وبدون مشاركة مع أحد هذه المرة، على مقاليد السلطة.

أ ـ مجلس الثورة : البديل عن الجبهة

نجح انقلاب بومدين في 19 حزيران/يونيه 1965، وتم اعتقال بن بلا وسجنه. وشكل “مجلس الثورة” من 25 عضوا، منهم 12 عقيدا من الجيش، والبقية أغلبهم من قادة المغاوير السابقين “الذين أغراهم بومدين، حسب فرحات عباس، بالأعمال التجارية. لينضموا إلى المجلس، ولكن بدون ممارسة سلطة فعلية، وقدموا بذلك تغطية لحكمه الشخصي” .
ومع نجاح الانقلاب “وترسيخ الحكم نهائيا في يد العسكر، أصبحت الثقافة العسكرية مهيمنة على الجزائر، وذلك بعد أن اعتبرت إرثا وطنيا ومكسبا تاريخيا” .
لقد أصبحت السلطة منذ 19 حزيران/يونيه في يد مجلس الثورة، فهو الذي يحدد السياسة الداخلية والخارجية للدولة، وهو الذي يراقب الحزب… كما قام بتعيين “أمانة تنفيذية”، لجبهة التحرير الوطني، على رأسها شريف بلقاسم، أحد أقطـاب مجموعـة وجـدة. ولم يكـن من حقهـا اتخـاذ القرارات والاجراءات، إذ لا يعدو دورها إعداد وتنفيذ قرارات مجلس الثورة .
وبرر بومدين ذلك فقال “إن جبهة التحرير الوطني ليست سوى جسدا بدون روح” . لكنه في المقابل أبقى عليه، وحوله إلى مجرد جهاز ينظم حملات الدعاية لصالح سياسته واختياراته .
وبعد فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها قائد هيئة الأركان، الطاهر زبيري في ديسمبر/كانون الأول 1967، قام بحل الأمانة التنفيذية للحزب وعين على رأسه مسؤولا وحيدا، قايد أحمد، عضو مجموعة وجدة السابقة ، الذي سرعان ما اختلف معه، فهرب إلى المغرب وعاش في المنفى حتى وفاته، ثم عهد بها إلى محمد الصالح اليحياوي، منظم حملة التعريب، والتأميمات الاشتراكية الواسعة .
ومنع الجبهة من عقد أي مؤتمر لها، فآخر مؤتمر عقدته في سنة 1964، أثناء حكم بن بلا. ولن تعقد مؤتمرها الموالي إلا في نيسان/يناير 1979، أي بعد وفاة بومدين، ومجيء بن جديد إلى السلطة .
يمكن التأكيد في هذه المرحلة “أن جبهة التحرير الوطني، لم تمارس سلطة حقيقية، إذ لم يعد هناك وجود لذلك الحزب الذي فجر حرب التحرير، ومثل الشعب بجميع طبقاته الاجتماعية، فلاحين فقراء أو برجوازيين، فكل ما في الأمر، حزب يجمع اولائك الذين لم يجدوا لهم عملا في الادارة الجزائرية” .
كما أن مجلس الثورة فقد الكثير من أعضائه، ففي 1966، هرب بومعزة ومحساس عضوي المجلس إلى باريس وأعلنا معارضتهما للنظام متهمينه بكونه “شرذمة في السلطة محرومة من أي دعم شعبي”، وبعد سنتين، على إثر المحاولة الانقلابية للطاهر الزبيري، منع كثير من أعضاء مجلس الثورة من حضور اجتماعاته، وبعد عشر سنوات من 19 حزيران/يونيه 1965، لم يعد يحضر اجتماعاته سوى 8 أعضاء من 25 عضو شكلوه في بدايته أطلق عليهم في الجزائر اسم “عصابة الثمانية” …
كما شهد الجيش الوطني الشعبي، تحولات عميقة، إذ غادره الكثير من ضباط جيش التحرير الوطني، وفي الآن نفسه تواصل تزايد نفوذ “ضباط الجيش الفرنسي” داخله، واحتلوا شيئا فشيئا مواقع القيادة. ويمكن تفسير ذلك بعاملين: الأول يتعلق بالصراع على السلطة داخل الجيش.
فبومدين أقصى الضباط الذين شاركوا في حرب التحرير لأنهم “متسيسون” بسبب تاريخهم، وعوضهم بضباط الجيش الفرنسي، لأنهم أكثر انضباطا ومحترفون عسكريا بدون إيديولوجيا. أما الثاني، فيتعلق بطبيعة الجيش الجديد الذي يحتاج إلى خبرات علمية وتقنية لم تتوفر في ضباط جيش التحرير، لأن كثيرا منهم كان شبه أّمي، وكان دفاع بومدين عنهم قوّيا “نحن نحتاجهم في الجيش، لقد قاموا بواجبهم” فيما بعد سيدفع هؤلاء الضباط إلى ضرورة الفصل الهيكلي بين الجيش وجبهة التحرير.
في هذه الفترة كان الكل عضوا في جبهة التحرير، رغم أن هذه الأخيرة لم تكن لها أية سلطة فعلية، فقد كان الانتماء إليها صوريا.
اتسمت هذه المرحلة بهيمنة بومدين المطلقة على الجيش وعلى الحزب وعلى الدولة، حتى أن الصراع بين الجناح السياسي والعسكري كاد ينعدم، فالجيش هيمن على الحزب، وبومدين هيمن عليهما معا. وفي هذه المرحلة أيضا، تحولت جبهة التحرير الوطني إلى مجرد بيروقراطية إدارية ضخمة، تضم في صفوفها كل من يبحث أو يريد المحافظة على وظيفته في جهاز الدولة، وفي الآن نفسه أفقدها العسكر إطاراتها التاريخية المناضلة، فكثير منهم في المنفى، (بوضياف، آيت أحمد…)، وآخرون في السجن (بن بلا…)، وآخرون في الاقامة الجبرية( عباس فرحات، بن يوسف بن خده…) وآخرون اغتالهم الأمن العسكري في أروبا (محمد خيضر بمدريد، وكريم بلقاسم بفرنكفورت)…
وكان في إمكان بومدين حل الجبهة وإنهائها، إلا أنه لم يفعل ذلك، فهي رغم كل شيء، كانت ضرورية لتوفير الغطاء السياسي اللازم للجيش، “فقد لعبت دور الحجاب الذي يخفى السلطة الحقيقية”
ومع وفاته في 27 ديسمبر/كانون الأول 1978، دخلت الجبهة مرحلة جديدة، حاول فيها بن جديد بناء توازن جديد بين العسكر والسياسيين.

divers_1182317745_9368319011

ب- الشاذلي بن جديد: محاولة إعادة التوازن

حينما توفي الرئيس الجزائري هواري بومدين في 27 ديسمبر/كانون الأول 1978، ترك الساحة السياسية-العسكرية فارغة من “قائد” قوي يستطيع خلافته بيسر، ومثلت وفاته مناسبة جديدة لامتحان القوة بين العسكر والسياسيين داخل الجبهة. فالاعتقاد السائد، كان يذهب في اتجاه التفضيل لخلافة الرئيس، بين كل من محمد الصالح اليحياوي، المسؤول التنفيذي المكلف بجهاز الحزب من جهة، وعبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية من جهة ثانية، إلا أن خيار الجيش رجح كفة شخصية عسكرية لم يكن اختيارها مطروحا، تمثلت في الشاذلي بن جديد، قائد منطقة وهران، المنطقة العسكرية الثانية، على اعتبار أنه الضابط الأقدم والأرفع درجة. وهكذا نجح الجيش في التحكم مرة أخرين في حياة الحـزب/الـدولة فـي الجـزائـر . لقــد استبعد السياسيان، رغم أن أصلهما كان عسكريا، باعتبارهما من ضباط جيش التحرير الوطني، وعين العسكرّي مرة أخرى ليؤكد مقولة “إن الجيش يمتلك كل السلطة، وسيعمل كل ما في وسعه للمحافظة عليها، وسيكون ذلك سهلا” . وبين ذلك بلعيد عبد السلام، أحد رجال النظام لفترات طويلة حينما قال: “إن جبهة التحرير الوطني ليست ألا إمتدادا سياسيا للجيش، في حين أن الأمن العسكري (من أقوى الأجهزة داخل الجيش) كان يمثل فعليا نظاما سياسيا موازيا… يعمـل كمنظمة لتـأطير كـل أنشطة قطاعات البلد”
لم تكن هذه الحقائق غريبة عن رئيس الدولة/الحزب الجديد، فعمل، بعد أن نزع عنه ثيابه العسكرية، على إعادة التوازن بين الجناح السياسي والجناح العسكري، من خلال سلسلة من الاجراءات والقرارات:

– أولا: بعد أن أصبح الشاذلي بن جديد رئيسا للحزب، قام بتقويته، ليستخدمه في صراعه ضد مراكز القوى في الجيش، فهو يدرك جيدا، أنه لايمكن أن يسيطر على الحزب والدولة بدون سيطرته على الجيش، فحاول الاستعانة بالجناح السياسي للحزب، فقام بدعم محمد الشريف مساعديه، الذي أصبح الأمين القار للجنة المركزية (من 1980 إلى 1988) وهو رجل قوي، قام بإعادة تأطير الحزب وشكل مكتبه السياسي ولجنته المركزية ، التى قررت اعتبارا من 29 ديسمبر/كانون الأول 1980، إلزام كل إطارات المنظمات الجماهيرية، وأعضاء الجمعيات المنتخبين، بالانضمام إلى جبهة التحرير الوطني، مما يعنى توجها جديدا لإعادة الاعتبار للجانب السياسي، وبالتالى إحداث توازن مع الجيش.
– ثانيا: بما أن بن جديد كان يعمل من أجل توازن يمكنه من التحكيم، فقد ترك الجيش يحافظ على موقعه داخل الجبهة، إذ بقي الجيش جزءا لايتجزأ من الحزب، يشكل ضباطه السامون 20% من أعضاء اللجنة المركزية .
– ثالثا: ولكنه، قام في الآن نفسه بإدخال تغييرات كبيرة على هيكلية الجيش، فقام بإعادة تنظيمه على أساس فرق عسكرية تقليدية، وليس “مناطق عسكرية” شبه مستقلة كما كان في الماضي ، حيث كان لقائد المنطقة صلاحيات كبيرة وبالتالى نفوذ واسع وتحكم مفرط في قواته. وتمكن بالتالى من تصفية (عزل أو إبعاد) رموز مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية، مثل عبد الله بلهوشات، عضو مجلس الثورة السابق، ونائب وزير الدفاع، الأكحل عياط مسؤول جهاز الأمن العسكري، وقطع شوطا في محاولة إبعاد الجيش عن السياسة بإعفاء قاصـدي مربـاح مـن رئاسـة الحكـومة، وتعيـين مـولود حمـروش عوضا عنه وهو سياسي من جبهة التحرير، في حين أن الأول كان عقيدا في الجيش مسؤولا عن الأمن العسكري طيلة عهد بومدين.
هدف بن جديد من وراء ذلك إلى دعم مركزه في السلطة، محاولا التخلص من الصورة التي رسمت له داخل الجيش، على أساس أنه الرجل الضعيف في المركز القوي، حيث يسهل للضباط الكبار السيطرة عليه وتوجيهه لخدمة مصالحهم. وكان التوازن بين الأجنحة العسكرية من جهة (لم يحافظ الجيش بعد موت بومدين على عصبية مجموعة وجدة التي تفرقت، وانهزمت في معركة الخلافة) والأجنحة السياسية من جهة ثانية (تعيش جبهة التحرير/الجناح السياسي نفسه صراعات داخلية أخرى. سنراها في الفصول القادمة) والتوازن بين العسكري والسياسي من جهة ثالثة، طريقه الوحيد في الاستمرار، مما أدى إلى غموض كبير وتشابك معقد على مستوى الصراع .

يتبع



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*


صراعات-النخب-السياسية-والعسكرية-في-ال-6

الرئيسية » الكتاب المتسلسل للتقدمية » صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة السادسة. رياض الصيداوي

صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة السادسة. رياض الصيداوي

في الكتاب المتسلسل للتقدمية

16 سبتمبر 2015
0
435 زيارة

صراعات النخب الجزائرية2 ـ الجبهة/ الجيش: الانفصال

مثلت أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 منعرجا حاسما في تاريخ جبهة التحرير، إذ كانت إعلانا رسميا عن أزمة ثقة، بل عداوة، صريحة بينها وبين رجل الشارع.
تسببت البيروقراطية الحزبية، والخلل الواضح بين شعارات المسؤولين “التقدمية” وممارساتهم اليومية، إضافة إلى الفساد الذي استشرى في عهد بن جديد، وظهور ما أطلق عليه بـ”المافيا الاقتصاديةـ السياسية ـ العسكرية”، في هذه القطيعة بين الجبهة وما كانت تعتبره “جماهيرها المناضلة”. فقد استهدف المتظاهرون مقراتها، وكانت أول هدف للحرق والنهب. وتدخل الجيش حاسما الموقف وبعد سقوط مئات القتلى، تمكن من وضع حد للاضطرابات. وأحس الجيش كما الجبهة بأن صورتيهما الأسطورية التي اكتسباها من حرب التحرير، قد انتهت في أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988. ودخلت السلطة بمختلف أنواعها، سياسيون وعسكر في تبادل الاتهام عن من هو المسؤول، وكان بن جديد واضحا حينما قال في المؤتمر السادس للجبهة “لقد أنقذ الجيش البلاد من كارثة… ويجب على الذين ينتقدون الجيش أن يوجهوا انتقادهم لي أنا شخصيا فأنا الذي أعطيته الأوامر للتدخل” .
ورد الجيش الفعل وانسحب من جبهة التحرير الوطني.

أ ـ الانسحاب: فصل العسكري عن السياسي

فرض بن جديد في مؤتمر الجبهة السادس الذي عقد مباشرة بعد أحداث أكتوبر، أي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الموالي، على اللجنة المركزية مجموعة من الاصلاحات من بينها قبولها بفصل الحزب عن الدولة، ورغم ذلك، فقد أعادت اختياره كمرشح وحيد لانتخابات ديسمبر/كانون الأول 1988 الرئاسية. وبعد أن تم انتخابه، دفع في اتجاه تبني دستور جديد للجزائر يؤسس للتعددية الحزبية وفصل الجيش عن السياسة. وتم الاستفتاء الشعبي الذي تبنى هذا الدستور بنسبة 73.4 بالمائة “نعم” في 5 فبراير/ شباط 1989. وفي 4 مارس/آذار مـن نفـس السنة، احتـراما منهـم لمبـدأ التعـددية السياسية وللدستور، قدم ضباط الجيش استقالتهم من اللجنة المركزية للحزب .
وبموجب هذا الدستور، لم يعد الجيش “وسيلة الثورة في التغيير الاجتماعي، مكلفة بالمساهمة في تنمية البلاد وتوطيد الاشتراكية” كما كان في الدستور القديم، لقد نصت المادة 24 من الدستور الجديد على “أن مهمة الجيش الوطني الشعبي الدائمة هي المحافظة على الاستقلال الوطني، والدفاع على السيادة الوطنية. إنه مكلف بضمان الدفاع عن وحدة البلاد وحرمتها الترابية …
وأكد هذا الانسحاب عمليا العقيد يحيى رحال، مدير ” المفوضية السياسية للجيش” حينما صرح لصحيفة المجاهد: “من المهم أن يكون الجيش الوطني الشعبي فوق كل صراع سياسي” . وفي نفس السياق، عين اللواء خالد نزار وزيرا للدفاع سنة 1990، وذلك لأول مرة منذ انقلاب حزيران/يونيه 1965، وتم ذلك بعد أن انسحب الرئيس من منصبه كأمين عام لجبهة التحرير في سنة 1989. فلم يعد رئيس الدولة يحتكر السلطات الثلاثة (الدولة ـ الجيش ـ الحزب) .
وفي ربيع 1990، قرر رئيس الحكومة مولود حمروش وعـدد من وزرائه الانسحاب من المكتب السياسي للجبهة .
لكن يبقى أهم تغير له دلالة سياسية بارزة هو انسحاب الجيش من الحزب، فهذا الانسحاب شكل منعرجا حاسما في المشهد السياسي للجزائر. مما يدفعنا إلى ضرورة البحث عن الأسباب العميقة والمباشرة التي دفعته إلى الانفصال عن الحزب.

تبرز الأسباب العميقة من خلال:
ـ أولا: تغير تركيبة الجيش: فقد انسحب الضباط والجنود الذين شاركوا في الثورة في إطار جبهة التحرير الوطني بفعل الابعاد أو العزل بسبب الصراع عن السلطة أو بسبب فقدانهم للكفاءة العلمية أو بفعل التقاعد والكبر في السن، وحل محلهم ضباط جدد، ضباط الجيش الفرنسي (رأينا ذلك سابقا) في القيادة من أمثال، خالد نزار ، محمد العماري ، محمد التواتي ، محمد مدين . وضباط آخرون، شباب التحق بالجيش وتكون تكوينا عسكريا احترافيا، بعيدا عن شعارات الجبهة وإيديولوجيتها، وهـو متفق مـع القـادة الذين سـبق ذكرهـم، بـأن الحـزب يشكل عبئا على الجيش، يستحسن التخلص منه والتفرغ للمسائل العسكرية البحتة.
ـ ثانيا: اهتراء اسم جبهة التحرير الوطني: لم تعد الجبهة ذلك الرمز التاريخي الذي أشع عالميا، وشكل أسطورة ببطولاته في حرب التحرير، فقد تحول إلى مجرد جهاز إداري ـ جسدا بدون روح ـ سيء السمعة، يجمع الباحثين عن مصالحهم، ومصدرا للإثراء، والتسلق الوظيفي الانتهازي. ومثل حرق مقراته من قبل المتظاهرين في أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 دلالة سياسية ـ نفسية ذات معنى كبير، فهو “حزب الخاسرين” وتأكد ذلك خاصة بعد هزيمته في الانتخابات البلدية أمام “الجبهة الاسلامية للإنقاذ”، بفارق واسع ، وهزيمته مرة ثانية أمامها وأمام حزب “جبهة القوى الاشتراكية” بقيادة حسين آيت أحمد في الدور الأول من الانتخابات التشريعية .
ـ ثالثا: حدث تقارب وانسجام كبيران بين قادة الجيش وطبقة التقنوقراط الجديدة، فقد برزت منذ آواخر عهد بومدين مجموعة من المسؤولين ذوي الكفاءات العلمية والمهنية، واحتلوا تدريجيا بعض المواقع في جهاز الدولة، وكان انتماءهم إلى الحزب صوريا، حيث تجاوزت قناعاتهم شعارات الجبهة، وكانوا أول المستعدين للانسحاب منها، لأنهم يرونها عائقا أمام الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وعلى رأس هذه المجموعة سيد أحمد غزالي الذي فرضه الجيش رئيسا للحكومة، قبل استيلائه على السلطة في آخر عهد بن جديد .
وسيجد الجيش سندا له، داخل هذه المجموعة في مواجهة بقية القوى السياسية بما فيها جبهة التحرير الوطني.

national__1_7954949861أما الأسباب المباشرة التي دفعت بالجيش إلى الانفصال عن الجبهة فيمكن حصرها في:
ـ أولا: كانت أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988، سببا مباشرا دفع الجيش إلى الانسحاب، فقد تم انتقاده بشدة بسبب تدخله العنيف لاعادة الهدوء إلى الشارع الجزائري، وشنت حملة لتشويهه باعتباره مسؤولا عن العديد من التجاوزات، وأنه يقف عائقا أمام التعددية الحزبية وبالتالي الديموقراطية… فقام بالانسحاب، لتلميع صورته، وإلقاء المسؤولية على جبهة التحرير الوطني فيما وصل إليه وضع البلاد، ومن ثمة الرد على كل من يتهمه بأنه “فوق الصراع السياسي”.
ـ ثانيا: سيتمكن، بانسحابه، من حماية وحدته من التمزق، ذلك أن الجبهة نفسها كانت تخوض صراعات ضد مؤسسة الرئاسة، وضد الأحزاب الأخرى، وكانت تعيش صراعا داخليا حادا بين محافظين (الحرس القديم) وليبيراليين يدعون إلى الانفتاح، فاختارت قيادة الجيش إبعاد ضباطها عن هذا الصراع الداخلي المتشابك، حماية لوحدتها كمؤسسة عسكرية متلاحمة.

ـ ثالثا: أحس الجيش بخطر المرحلة السياسية القادمة ودقتها، فهو إذا تدخل باسم جبهة التحرير الوطني وشن حملة قوية ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فسيعد ذلك تحيزا منه لحزب معين، وبالتالي يعتبر معاديا للديموقراطية والتعددية الحزبية، وحينما سيتدخل فيما بعد سيكون ذلك من أجل حماية الوطن واستقراره والمحافظة على وحدته، مما مكنه من تفادي تهمة التحيز الحزبي، فاختار الابتعاد والتراجع الشكلي عن الساحة السياسية لمراقبة الوضع والتدخل حينما يستدعي الأمر تدخله، خاصة وأنه يمتلك من خلال المخابرات العسكرية المعلومات والملفات الضرورية التي تمكنه من فهم طبيعة المرحلة.
نتج عن الانفصال بين العسكر والسياسيين ظهور صراع جديد، إذ لم يعد الصراع داخليا داخل جبهة التحرير، وإنما أصبح خارجيا بين مؤسستين مستقلتين، الجيش من موقعه في السلطة، وجبهة التحرير الوطني من موقعها في المعارضة.

ب ـ الأزمة: الجيش في السلطة/ الجبهة في المعارضة

لم تستمر مراقبة الجيش لتطور الأوضاع السياسية طويلا، فبعد أن نجحت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي تمت في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991، وحصلت على نسبة 5،47% ، تدخل الجيش في 11 حزيران/يونيه 1992، وأجبر الشاذلي بن جديد على الاستقالة. وتم ذلك بعد اجتماع 180 ضابطا من الجيش في بداية شهر يناير/كانون الثاني 1992 ليعقدوا العزم على وضع حد للانتخابات.
صورة أخرى نادرة جدا للجنرال محمد مدينوانشىء المجلس الأعلى للدولة، متكونا من خمسة أعضاء على رأسهم محمد بوضياف ، ومثل الجيش فيه من خلال وزير دفاعه خالد نزار. وهي محاولة منه للبحث عن واجهة سياسية يحتمي بها، لكنها لـم تستمر طويلا، إذ تـم اغتيال بوضياف فـي 29 حزيران/يونيه 1992، وعوض بعلي كافي الذي وقع تعويضه باللواء اليمين زروال. لقد حاول الجيش البحث عن واجهة سياسية تدعمه، فالتجأ إلى شخصيات تاريخية شاركت في حرب التحرير كبوضياف، وكافي. وحاول أن يدعم موقعه بربط علاقة مميزة مع منظمة قدماء المجاهدين، التي تعرف احتراما وتقديرا كبيرين لدى الشعب الجزائري. وفي الآن نفسه تحالف مع التكنوقراط الذين استلموا كل ما هو إداري واقتصادي في البلاد، مثل سيد أحمد غزالي، مقداد سيفي، أحمد أويحي… ووحد صفوفه للتفرغ إلى مقاومة الحركة الإسلامية التي اتجهت إلى استخدام العنف المسلح ضد كل من يخالفها في الرأي والموقف.
كما توصل إلى ضرورة تعيين عسكري من الجيش في رئاسة الدولة، فأصبح اليمين زروال في 30 يناير/كانون الثاني 1994 رئيسا للدولة ووزيرا للدفاع في نفس الوقت .
اتسمت هذه المرحلة، منذ إجبار بن جديد على الاستقالة حتى إبعاد عبد الحميد مهري عن القيادة، بنمو صراع واضح المعالم بين جبهة التحرير الوطني من ناحية، والسلطة، ممثلة في مؤسسة الجيش من ناحية ثانية. لقد أصبح الصراع في هذه المرحلة خارجيا وليس داخليا كما كان من قبل. وانعدم بالتالي الصراع بيـن الجـناح العسـكري والجـناح السـياسي فــي مؤسـسة واحـدة. ولكنـه استمر في إطار مؤسستين مستقلتين، الأولى في الحكم والثانية في المعارضة. وكان لكل منهما انتقاداته ومواقفه من الآخر.

ـ موقف السلطة/ الجيش: تميز هذا الموقف بالعداوة منذ البداية، وذلك بعد انتقاد جبهة التحرير تدخل الجيش وإلغائه لنتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية، وتنسيقها مع القوى المعارضة الأخرى، خاصة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية. وتمثلت هذه العداوة في مصادرة السلطة الجديدة لمعظم مقرات الجبهة بما في ذلك مقرها الرسمي في الجزائر العاصمة. كما انتزع منها صحيفة “المجاهد”، الصحيفة التاريخية للثورة الجزائرية، وجعلتها ناطقا رسميا باسمها. وأممت أيضا صحيفة “الشعب” بعد أن أخذتها من الجبهة، فحاولت هذه الأخيرة اصدار صحيفة يومية جديدة، هي صحيفة “الحوار”، التي سرعان ما أوقفت لمدة ستة أشهر بدون تقديم أي تفسير .
ثم أصبح الهجوم عنيفا ضد الجبهة، أثناء وبعد ملتقى روما الذي احتضن أهم الأحزاب المعارضة الجزائرية يومي 21 و 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1994، بمبادرة من جمعية “سانت إيجيديو” الكاثوليكية، حيث جندت السلطة وسائلها الاعلامية، وبعض رجالاتها، يتقدمهم الراحل عبد الحق بن حمودة أمين عام النقابة الجزائرية والشيخ احمد حماني رئيس المجلس الاسلامي الأعلى، ليتهم الجميع عبد الحميد مهري (أمين عام جبهة التحرير الوطني منذ أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 1988 حتي استبداله بالسيد بوعلام بن حمودة سنة 1996) “بالعمالة” و”الخيانة” و”العمل من أجل تدويل القضية الجزائرية”.
وتضاعفت الضغوط على الجبهة وأعضائها وعلى أمينها العام، الذي أشار مرة فقال “يراد إسكاتنا من الداخل بحجز جرائدنا وفي الخارج بالافتاء بأننا نحاول جلب الخطر الصليبي للجزائر” . مما دفع بالجبهة إلى انتقاد الجيش وتحديد موقفها منه. ولكن الاحداث تتالت بسرعة دفعت بالشق الموالي للنظام إلى الاستيلاء على قيادة الجبهة.
-موقف جبهة التحرير: تتهم الجبهة الجيش بكونه يحكم بدون غطاء سياسي، حيث حلل عبد الحميد المهري طبيعة العلاقة بين الجيش والحزب ماضيا وحاضرا قائلا: “إن الجيش الجزائري كان له دائما ثقل سياسي بدأ مع بداية الثورة وحرب التحرير، لكن هذا الثقل كان متكاملا داخل النظام، فالدستور وزع الصلاحيات يومها على جهات مختلفة، والجيش طبعا كان طرفا في الحكم، سواء في الحزب أو في السلطة التنفيذية، أما ما بعد النهاية الرسمية لنظام الحزب الواحد فقد أصبح الجيش وحده في الميدان، حتى إذا أخذ قرارات معينة وقام بتصرفات بارزة يكون بلا غطاء سياسي ولاحتى إطارات سياسية يلجأ إليها” ، كما انتقد مهري بعنف الجيش/السلطة في ندوة صحفية عقدت في فندق الجزائر في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1994 واتهم سياسته بالفشل “حتى ولو هبت الأحزاب مجتمعة لنجدة السلطة” وطالبه بوضع “سياسة بديلة تتفق عليها أطراف الحوار…” .
وطالب، في نفس الاتجاه، الدكتور احمد طالب الابراهيمي، العضــو القيـادي فـي جبهـة التحـرير الوطنـي الرئيس السابق اليمين زروال، بضرورة بقاء الجيش “مؤسسة عصرية، قوية متماسكة، فوق الخلافات الحزبية، ويكون شغله الشاغل حماية الوحدة الوطنية والترابية، والدستور الذي يعكس إرادة الشعب صاحب السيادة” . ومن ثمة كانت القطيعة شبه نهائية بين الجيش وجبهة التحرير الوطني. وأثبتت الأحداث أن الجبهة تحولت إلى “جسد بدون روح”، منذ الصراعات العنيفة التى عاشتها سنة 1962 من أجل احتكار السلطة. فهي اليوم، بعد خروج العسكر منها، لاتحتل إلا المركز الثالث بين الأحزاب السياسية الرئيسية في الجزائر، ولاتستقطب الجيل الجديد من الشباب، فلجنتها المركزية لاتتكون إلا من القادة التاريخيين للجبهة. وإذا كان الجيل الشاب يمثل 65% من الشعب الجزائري، فإن الخسارة تصبح جسيمة، والمسافة بين الجبهة والمجتمع واضحة.
إننا يمكن أن نلخص طبيعة العلاقة بين الجناح العسكري والجناح السياسي داخل الجبهة، حتى سنة الانفصال 1989، من خلال الجداول الأربعة التالية، التى تتناول النخبة القائدة في أهم مواقع الجبهة/الثورة/الدولة:

جدول رقم (1) رئيس الدولة من 1962 إلى 1989 .
الـرئيـــس
الجنــــــاح
احمد بن بلا سياسي
هواري بومدين عسكري
الشاذلي بن جديد عسكري

جدول رقم (2 ) رئيس للحكومة من 1958 إلى 1990 .
رئيس الحكومة
الجنـــــاح
فرحات عباس سياسي
بن يوسف بن خده سياسي
احمد بن بلا سياسي
هواري بومدين عسكري
الشاذلي بن جديد عسكري
احمد عبد الغني عسكري
عبد الحميد البراهيمي سياسي
قاصدي مرباح عسكري
مولود حمروش سياسي

جدول رقم (3) وزير الدفاع من 1962 إلى 1989
الـــوزيــر
الجنـــاح
هواري بومدين عسكري
الشاذلي بن جديد عسكري

جدول رقم ( 4) أمين عام ومسؤول للحزب من 1956 إلى 1994.
المســــــؤول
الجنــــاح
محمد خيضر سياسي
أحمد بن بلا سياسي
هواري بومدين عسكري
شريف بلقاسم * عسكري
قايد أحمد * عسكري
محمدالصالح اليحياوي * عسكري
الشاذلي بن جديد عسكري
محمد الشريف مساعدية * سياسي
عبدالحميد مهري سياسي

تقدم لنا هذه الجداول مجموعة استنتاجات:

ـ أولا: إن هيمنة الجناح العسكري كانت مطلقة على رئاسة الدولة منذ إزاحة بن بلا سنة 1965. ويفسر ذلك بأهمية موقع الرئيس في عملية التحكم في مقاليد الحكم، فلم يكن الجيش مستعدا للتفريط في هذا الموقع. (جدول رقم 1).
ـ ثانيا: احتكر منصب وزير الدفاع كلية من قبل الجناح العسكري، بل احتكر أيضا من قبل رئيس الدولة، ودلالة ذلك، أن من يحكم الجيش، يحكم بالضرورة الدولة والحزب. (جدول رقم 3).
ـ ثالثا: هناك تسامح نسبي من قبل الجيش في منصب رئيس الحكومة، فباستثناء هيمنة بومدين المطلقة على كل المناصب، والفترة الأولى من عهد بن جديد، احتل السياسيون المدنيون هذا الموقع، ويفسر ذلك بطبيعة هذه المسؤولية في النظام السياسي الجزائري، فهي مسؤولية إدارية قبل أن تكون سياسية، ونلاحظ اليوم (1994-1999)، أن الجيش قد سلمها إلى التقنوقراط (مقداد سيفي، احمد أويحي، إسماعيل حمداني).
ـ رابعا: هيمن الجناح السياسي على أمانة الجبهة منذ مؤتمر الصمام (عبان رمضان) وتواصل ذلك مع محمد خيضر وأحمد بن بلا، لكن انقلاب بومدين، أضعف هذا الجهاز كثيرا، خاصة بعدما سلمه إلى بعض ضباطه من مجموعة وجدة (شريف بلقاسم، قايد أحمد)، لكن عاد الجناح السياسي بقوة بفضل لعبة إعادة التوازن التي قام بها الشاذلي بن جديد، ومجيئ محمد الشريف مساعدية لإدارة الحزب.

لقد بينت هذه الجداول، إجمالا، كيف هيمن الجيش على الجبهة من خلال الهيمنة على أهم المواقع داخل الجبهة/ الدولة. وأدت هذه الهيمنة إلى إقصاء شبه كلي للجناح السياسي، حتى إذا ما انسحب الجيش/ السلطة من الحزب، وجد هذا الأخير نفسه في حالة انحطاط كبير وضعف شديد. إذ فقد الجماهير من قبل، كما فقد قياداته التاريخية، وحينما فقد السلطة الشكلية التي كان يمارسها من خلال الجيش، فقد معه بيروقراطيته الإدارية ومزاياها المالية، وبالتالي كثير من أعضائه الذين لم ينضموا إلى الجبهة إلا مكرهين، من خلال قوانين إلزام العضوية، لمنخرطي الجمعيات الأخرى، أو منتهزين ما يمكن أن تقدمه هذه البيروقراطية من فوائد مادية وامتيازات وظيفية، غادروها منذ إقصائها عن الحكم من قبل الجيش. والطريف في الأمر أن الأغلبية الساحقة من الأحزاب وقادتها كانوا أعضاء في جبهة التحرير الوطني، من عباسي مدني إلى أحمد بن بلا إلى حسين آيت أحمد، إلى رضا مالك، إلى قاصدي مرباح… ووصل عددها حوالي 50 حزبا، وهو تعبير عن طفرة حزبية نتجت عن معاناة طويلة من هيمنة الحزب الواحد…

مولود حمروش

مولود حمروش

لقد خصصنا، جزءا كاملا لمسألة الصراع العسكري السياسي، لأننا افترضنا منذ البداية اعتباره صراعا محددا، حاسما في مسيرة الجبهة، مسؤولا أولا عن حالة الضعف الشديد والانحطاط الذي تعيشه بعد سنوات الهيمنة والاشعاع، حينما مثلت الجبهة في الخمسينات وبعض سنوات الستين أسطورة وملحمة بطولية ونموذجا لحركات التحرر في العالم. وتأكد هذا الافتراض في خاتمة بحثنا في هذا الجزء. لقد انتهت الجبهة كحزب سياسي رسميا في 19 حزيران/يونيه 1965، وتحولت إلى مجرد جهاز إداري ملحق بالجيش، وضعفت هذه الإدارة بمجرد فصلها عن المؤسسة العسكرية.


في خاتمة هذا الجزء يصبح من المشروع التساؤل، هل يشهد هذا الحزب التاريخي طورا جديدا في حياته السياسية؟ أفلا يمكن القول أن انسحاب الجيش منه، وخروجه من ممارسة السلطة إلى دور المعارضة فرصة جديدة له لاعادة هيكلة نفسه وبناء أجهزته بأسلوب ديموقراطي افتقده أثناء فترة حكمه؟.
دعم هذا الطرح المتفائل، الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني،عبد الحميد مهري وصرح مرة “لم تكن الجبهة قبل سنة 1988 حزبا سياسيا، بل كانت جهاز دولة يقوم بوظائف سياسية. وبعد دستور 1989، تخلصت من هذه المهمة، وعادت إلى منابعها الأولى” . لكن سرعان ما عادت جبهة التحرير الوطني تحت قيادتها الجديدة إلى الارتباط من جديد بالمؤسسة العسكرية، أي السلطة الفعلية.

يتبع

 



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*


صراعات-النخب-السياسية-والعسكرية-في-ال-7

الرئيسية » الكتاب المتسلسل للتقدمية » صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة السابعة. رياض الصيداوي

صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، الدولة. الحلقة السابعة. رياض الصيداوي

في الكتاب المتسلسل للتقدمية

21 سبتمبر 2015
0
379 زيارة

صراعات النخب الجزائريةالجزء الثاني:صـراعـات مسـاهمة

الفصل الثالث : الصـراع الإيـديولوجي الثقافي

يعالج هذا الفصل إشكالية الصراع الإيديولوجي ثم الصراع الثقافي الذي عاشته جبهة التحرير الوطني على امتداد أربعين عاما (1954 – 1994).
ويتناول بالتحديد التمزق الايديولوجي والثقافي والتأرجح الذي شهدته. إنه يفترض أن هذين الصراعين ساهما بدورهما في اضعاف الجبهة وتآكلها من الداخل. واحتراما منه للمنهج التاريخي الذي اتبع منذ البداية، فإنه سيبحث في جذور النزاع، كيف نشأ وتطور وساهم في إضعاف الجبهة، والانتقال بها من الاشعاع، الهيمنة، الأسطورة، إلى الضعف والانحطاط. ومن ثمة سنقسم هذا الفصل إلى قسمين، في الأول، نبحث الصراع الايديولوجي، ونحدد العلاقة بين أربعة أقطاب، القطب الاشتراكي في مواجهة القطب الليبيرالي، والقطب الإسلامي في مواجهة “القطب اللائكي”، وكيف تطور الصراع بينهم. أما في القسم الثاني، فنعالج الصراع بين المتشيعيين إلى الثقافة/ اللغة العربية، والمنادين بالتعريب من جهة، والمتشيعين للثقافة/ اللغة الفرنسية، والمنادين بالمحافظة عليها من جهة ثانية.

1 ـ الصراع الإيديولوجي: هيمنة الخط الاشتراكي/ الإسلامي

يتفق الكثير من قادة الثورة الجزائرية ومؤرخيها والباحثين السياسيين بتعدد مرجعياتهم الفكرية والايديولوجية على حقيقة انعدام برنامج سياسي وخط إيديولوجي واضح قدمتهما جبهة التحرير عندما أعلنت عن تأسيسها.
لقد كان بيان أول نوفمبر 1954 عاما توفيقيا، فقد اعتبر هدفه الأقصى يكمن في تدمير النظام الاستعماري. وللوصول إلى هذه الغاية تم توجيه النداء “إلى كل الوطنيين الجزائريين من كل الشرائح الاجتماعية، ومن كل الأحزاب والحركات الجزائرية الصرفة” .
وعكس غياب إيديولوجيا محددة للجبهة، حقيقة طبيعة الأصول الاجتماعية لمؤسسيها، إذ كانوا من أصول شديدة الاختلاف على حد تعبير محمد لبجاوي “فمنهم مثلا بن بولعيد الذي كان مالكا عقاريا وتاجرا كبيرا، وزيرود يوسف كان حدادا، ومراد ديدوش كان ابنا للبرجوازية المرفهة، كذلك بن مهيدي، في حين أن رابح بيطاط لم يكن إلا عاملا مثله مثل محمد خيضر…أمّا بن بلا وكريم بلقاسم وآخرون فينتمون إلى أوصول فلاحية” . فلا يمكن لهذا الخليط الاجتماعي المتناقض أن يوحد الجبهة في برنامج سياسي إيديولوجي يلقي الاجماع.
كما يعتقد أحمد بن بلا “أن نقطة الضعف الأساسية التي شهدتها الجبهة، هي أنها لم تعرف برنامجا ولا مذهبا. فالثورة الجزائرية كانت ثورة بدون إيديولوجيا: إنها ثغرة مكنتنا أثناء الحرب من توحيد كل القوى ضد الاستعمار، ولكنها خلقت في الآن نفسه فراغا خطيرا” .
ويذهب في الاتجاه نفسه حسين آيت أحمد، ليؤكد على “وجود أزمة أيديولوجيا في الجزائر. فالجزائريون يتساءلون عن معنى الكلمات، عن مستقبل الثورة. إنهم يستمعون إلى تصريحات القادة الكثيرة، التي عادة ما تكون متناقضة” .
وتؤكد على نفس النقطة الباحثة الفرنسية مونيك قادان Monique Gadant حينـما تقـول: “لقـد ورثـت جبهـة التحرير الوطني من حركة انتصار الحريات الديموقراطية، فكرتي الاجماع والتضامن الأسطوريين، وهو ما أدى إلى غياب وضوح الأهداف، فبقي مشروع المجتمع المنشود عاما” .
535230_10150925426998835_119622873834_12867654_1136873052_nوتتفق ميراي ديتاي Mireille Duteil، باحثة فرنسية مع الجميع لتضيف: “إن حزب جبهة التحرير لم يكن إلا “جبهة”، يتميز أعضاؤها بغياب أية وحدة إيديولوجية تجمع بينهم” .
ولم يتمكن مؤتمر الصمام، رغم أنه شكل تحولا في هيكلة الجبهة، من الاجابة على الأسئلة التى كانت تخامر الجميع “فهل تريد جبهة التحرير الوطني الابتعاد عن النظام الثقافي الاجتماعي القديم؟ كيف تتصور تحديث الأمة: وفقا لأي مذهب ولأي قوانين..؟”
ستبدأ الأجوبة إنطلاقا من مؤتمر طرابلس، ومن ثمة سيبدأ صراع متشابك، تختلط فيه المصالح والطموحات الشخصية بالانتماءات الإيديولوجية، حيث كثيرا ما تنتصر الأولى على الثانية.
سنحصر مقاربتنا في التمييز بين التيار الاشتراكي في مواجهة التيارالليبيرالي من ناحية، والتيار الاسلامي في مواجهة التيار اللائيكي من ناحية ثانية، وقبل أن نشرع في التحليل ، وجب علينا، رفعا للالتباس والغموض، أن ننبه إلى:
– أولا: إن تعبيـر “الاشتراكـي” الـذي سنستخـدمـه فـي إطـار بحثنـا فـي الصراع الايديولوجي، لاينتمي إلى نظرية معينة، مثل الماركسية، أو غيرها، وإنما في إطار التصاق التعبير بالقادة الذين كانت لهم “اشتراكيات” فلكل جناح أو قائد اشتراكيته الخاصة (!)
– ثانيا: سنركز في تعبير “الليبيرالي” على البعد الاقتصادي، أي رأسمالية، أكثر منه على البعد السياسي، أي التعددية الحزبية… لأنه كثيرا ما سيكون مطلب التعددية الحزبية مثلا، مطلب بعض الاشتراكيين.
– ثالثا: لن نقصد بتعبير “الإسلامي”، ذلك المفهوم الشائع اليوم عن الإسلام السياسي وحركاته وأحزابه، التى تتخذ من الدين برنامجا لها، وإنما نعني به ذلك المعنى الشعبوي، الذي واكب الثورة الجزائرية، وغذى قيمة “الجهاد” ضد المستعمر، فهو إسلام وطني ـ شعبي، لاعلاقة له بإسلام حركة “الاخوان المسلمين” مثلا.
– رابعا: سيكون تعبير “اللائيكي” مبالغا فيه، إذا لم ننبه إلى أن اللائيكية في معناها التاريخي/الثورة الفرنسية، أي فصل الدين عن الدولة، لم يكن لها وجود حقيقى داخل جبهة التحرير الوطني، وإنما سنعتبر بعض الاتجاهات الضعيفة، لائيكية، مثل بعض الماركسيين داخل الجبهة، وسنستعين في تحليلنا للصراع ونتائجه بالجداول الأربعة التالية :

جدول رقم (5) رئيس الدولة من 1962 إلى 1989
(الصراع الايديولوجي الثقافي).
رئيس الدولة اشتراكي/ليبيرالي إسلامي/لائيكي عربية/فرنسية
بن بلا اشتراكي إسلامي عربية
بومدين اشتراكي إسلامي عربية
بن جديد ليبيرالي أسلامي عربية

جدول رقم (6) رئيس الحكومة من 1958 إلى 1991
(الصراع الايديولوجي الثقافي).
رئيس الحكومة إشتراكي/ليبيرالي إسلامي/لائكي عربية/فرنسية
فرحات عباس ليبيرالي إسلامي فرنسية
يوسف بن خدة اشتراكي إسلامي فرنسية
احمد بن بلا اشتراكي إسلامي عربية
هواري بومدين اشتراكي إسلامي عربية
الشاذلي بن جديد ليبيرالي إسلامي عربية
احمد عبد الغني ليبيرالي اسلامي عربية
عبد الحميد الابراهيمي اشتراكي إسلامي عربية
قاصدي مرباح اشتراكي ? فرنسية
مولود حمروش ليبيرالي إسلامي عربية

جدول رقم (7) وزير الدفاع من 1962 إلى 1989
(الصراع الايديولوجي الثقافي).
وزير الدفاع اشتراكي/ليبيرالي إسلامي/لائيكي عربية/فرنسية
هواري بومدين اشتراكي إسلامي عربية
الشاذلي بن جديد ليبيرالي إسلامي عربية

جدول رقم 8) أمين عام/ أو مسؤول جبهة للتحرير الوطني: من 1962 إلى 1994 (الصراع الايديولوجي الثقافي)
أمين عام/مسؤول الجبهة ليبيرالي /اشتراكي إسلامي/لائيكي عربية/فرنسية
محمد خيضر ليبيرالي إسلامي عربية
احمد بن بلا اشتراكي إسلامي عربية
هواري بومدين اشتراكي أسلامي عربية
شريف بلقاسم ليبيرالي إسلامي عربية
قايد احمد ليبيرالي إسلامي عربية
محمد الصالح اليحياوي اشتراكي إسلامي عربية
الشاذلي بن جديد ليبيرالي إسلامي عربية
محمد الشريف مساعدية اشتراكي إسلامي عربية
عبد الحميد مهري اشتراكي إسلامي عربية

أ ـ اشتراكيون/ ليبيراليون: حقيقة الصراع

إن قراءة أولى ظاهرة لهذه الجداول تدفعنا إلى الاستنتاجات التالية:
1 ـ هناك هيمنة واضحة للخط الاشتراكي على رئاسة الدولة، أي أن رئيسين من ثلاثة انتميا إليه. ولم تشهد الرئاسة تحول إلى الليبيرالية إلا مع الشاذلي بن جديد، بداية من 1979.
2 ـ تم كذلك الهيمنة على رئاسة الحكومة من قبل الاشتراكيين وذلك في عهد الرئيس الراحل بومدين ثم انقلبت الهيمنة لصالح الخط الليبيرالي في عهد الشاذلي بن جديد.
3 ـ وزارة الدفاع، تولاها كل من هواري بومدين، الاشتراكي، ثم تولاها بعد وفاته الشاذلي بن جديد الليبيرالي، في إطار العرف الذي أسسه بومدين في الجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ووزارة الدفاع وأمانة الحزب.
4 ـ توجد هيمنة نسبية من قبل الاشتراكيين على أمانة أو إدارة الحزب.
ويمكننا تفسير انتصار الرؤية الاشتراكية منذ سنة 1962 بنوعين من الأسباب، بعضها داخلي، وبعضها الآخر خارجي.
ـ الأسباب الداخلية: وهي تتعلق بالأصول الاجتماعية التي تشكلت منها جبهة التحرير الوطني، فالليبيراليون، المنحدرون من طبقات مرفهة، مثل فرحات عباس، سعد دحلب… أخذوا مواقع القيادة في الجهاز السياسي ـ الدبلوماسي للثورة، وتواجدوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وفي الحكومة المؤقتة. ودافعوا على المشروع الليبيرالي، وعلى دور الطبقة البرجوازية في إنجاح الثورة الجزائرية، فقد اعتبر فرحات عباس “أن جيش التحرير الوطني، لم يكن قادرا على القتال والاستمرار فيه دون دعم طبقة الملاك… الذين احتضنوه. إنهم ملاك الأراضي، والفلاحين والتجار وأصحاب المهن الحرة الذين مدوه بالغذاء. وأخفوه بعيدا عن قمع الجيش الفرنسي…” . كما هاجم الاشتراكية واعتبرها “معطى جديدا أضيف إلى بيان واحد نوفمبر، إذ لم يتحدث عنها أحد أثناء الحرب” واتهم بن بلا بأنه “يستخدم الاشتراكية كحجة ضد كل من يستطيع مشاركته في السلطة” وكذلك بومدين الذي قال عنه “لقد اغتال الفلاحة وقتل المجهود الشخصي” .
في مقابل هذه المجموعة، التي لم تكن تمتلك القوة المسلحة على الأرض، كانت المجموعة الاشتراكية منحدرة من الطبقات الفقيرة مثل الفلاحين والعمال، وكانت ميزتها الأساسية في سيطرتها على جيش التحرير الوطني. حيث استهوت فكرة العدالة الاجتماعية الجنود المعدمين واستجابوا لقائدهم الكاريزمي بومدين الذي كان يقول: “لقد اتفقنا إذا ما بقينا أحياءا على مواصلة الطريق، فالمقاتلون لم يقوموا بالثورة حتى يصبحوا “خماسة” لدى الملاك الجزائريين” . وبما أن الجيش قد تبنى الطرح الاشتراكي، فقد انتصرت رؤيته منذ وصوله إلى السلطة مع بن بلا سنة 1962.
ـ الأسباب الخارجية: تأثرت جبهة التحرير الوطني بالمد الاشتراكي العالمي، وبالمضمون الاشتراكي الذي تبنته حركات التحرير الوطني إضافة إلى تلقيها الدعم الكامل والمساعدات المستمرة مادية (أموالا وأسلحة) ودبلوماسية (في الأمم المتحدة)، من الدول الاشتراكية والشيوعية، كمصر عبدالناصر، وصين ماوتسي تونغ وكوبا فيدال كاسترو… كل هذه العوامل أدت إلى تقوية الجناح الاشتراكي داخل الجبهة وفوزه بدون مشقة على الليبيراليين.
واتخذ التطبيق الاشتراكي شعار “التسيير الذاتي” مع بن بلا، ثم “الثورة الزراعية” و”التأميمات الكبرى” التي قام بها بومدين في أواخر الستينيات وفي السبعينيات، لكنه بدأ في التقلص والانكماش، ليترك مكانه إلى التطبيق الليبيرالي مع مجيء بن جديد، الذي بادر بإزاحة الاشتراكيين الراديكاليين أمثال بلعيد عبدالسلام ومحمد صالح اليحياوي، ومن وقع تسميتهم “بالبومدينيين”.
وبعد إزاحة جبهة التحرير من الحكم، لم يعد الطرح الاشتراكي ملحا، وذلك نظرا لعوامل داخلية، مثل تحول المجتمع الجزائري إلى اقتصاد السوق، وعوامل خارجية، مثل انهيار النماذج / الدول الاشتراكية في العالم.
غير أن قراءة أعمق للجداول، ولحقيقة الصراع، تدفع الباحث الموضوعي إلى طرح مجموعة من الأسئلة المشروعة، يكون دورها مجديا في تبيان مدى مساهمة هذا الصراع في تآكل الجبهة التاريخي وضعفها من الداخل.
– أولا: حينما وقع الانشقاق في مؤتمر طرابلس، وانتج مجموعتين متقابلتين ومتصارعتين، “مجموعة تيزي وزو” في مواجهة “مجموعة تلمسان”، كيف يمكننا تفسير أن كل مجموعة تضم داخلها اشتراكيين وليبيراليين على حد سواء؟ وبعبارة أكثر دقـة، ما الــذي يجمع فرحـات عباس ومحمد خيضر الليبيراليان مع أحمد بن بلا وهواري بومدين الاشتراكيين في تحالفهم ضد كريم بلقاسم ومحمد بوضياف الاشتراكيين المتحالفين بدورهما مع سعد دحلب وبعض زملائه من الحكومة المؤقتة الليبيراليين؟.
ـ ثانيا: كيف نفهم أن الصراع الذي حدث سنة 1962، من أجل ممارسة السلطة، لم يكن في أساسه صراعا بين ليبيراليين واشتراكيين، وإنما كان صراعا شرسا بين مجموعة من القادة، كل منهم كان ينادي باشتراكية خاصة به. فحسين آيت أحمد رفض اشتراكية أحمد بن بلا، وأسس حزبا معارضا سماه “جبهة القوى الاشتراكية”. بعد أن أعلن رأيه في “إن التخطيط الاشتراكي يعتمد على العمل الجماعي في الاعداد والتوجيه، مستخدما مفاهيما علمية، وليس على الاجتهاد والارتجال الشخصيين” . واتهم اشتراكية بن بلا بكونها ليست إلا “ترقيعات ديماغوجية”، و”إن بعض الاجراءات التي اتخذها تبدو وكأنها محاولة من اليمين لإفراغ الاشتراكية من مصداقيتها” .
أما محمد بوضياف، فقد انشق وأسس “حزب الثورة الاشتراكية”، الذي أعلن في أول نداء له “أن جبهة التحرير الوطني، أصبحت من هنا فصاعدا عاجزة على حشد وتنظيم وتوجيه الجماهير الشعبية إلى طريق الاشتراكية… لذلك قررنا تأسيس حزب طليعي بهـدف تحـريك الطاقات الثورية حول برنامج اشتراكي” .
ويؤكد بن بلا على اشتراكيته قائلا “لقد أعددنا، أثناء سجننا في “أولنوي” Aulnoy برنامجا، تميزت كل اختياراته في أن الجزائر يجب أن تعتمد على الاشتراكية…” .
كما نفذ هواري بومدين انقلابه في 19 حزيران/يونيه 1965 باسم إنقاذ الاشتراكية من الفوضى والحكم الشخصي لبن بلا.
إن هذا الصراع بين “اشتراكيات القادة”، دفع بجان لوكا Jean Leca وجان كلود فاتان Jean Claude Vatin إلى التعليق “بأن كل واحد منهم كان يدعي أنه أكثر يسارية من زميله، فهناك يسار بوضياف، يسار آيت أحمد، يسار بومعزة، يسار كريم… فكل واحد يعمل على استقطاب الجميع وحشدهم تحت قيادته الشخصية” .
ـ ثالثا: لماذا يعين بومدين شريف بلقاسم ثم قايد أحمد الليبيراليين مسؤولين على جبهة التحرير الوطني، في حين يتبنى أطروحة اشتراكية متشددة؟ وكيف يصل بن جديد الليبيرالي إلى رئاسة الدولة، ويخلف بومدين، في حين أن الجبهة/ الدولة أغرقت الجزائر بشعاراتها الاشتراكية؟ ثم كيف يتعـايش بـن جديـد مـع رئيـس حكومـته قاصـدي مربـاح الاشتراكي أو أمين عام الجبهة محمد الشريف مساعدية الاشتراكي؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تدفعنا إلى الاقرار بأن الصراع الايديولوجي لم يكن دائما صراع أفكار ومبادئ، بل كثيرا ما كان صراع أشخاص. أفراد يبحثـون عــن تحــالفات ظـرفية مع خصـومـهـم الإيديولوجيين، ليزيحوا من يتفق معهم في الفكر ولكن يزاحمهم في السلطة. ومن ثمة يمكننا استنتاج أن الصراع الاشتراكي/ الليبيرالي لم يكن حاسما في مسيرة الجبهة على عكس عوامل الصراع الأخرى.

يتبع



عن التقدمية


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*


*